ولدت وعشت طوال حياتي فى مدينتي الساحلية الساحرة بورسعيد ، تفاعلت معها و انعكست طبيعتها على نفسى ، و تعلمت من طبيعتها الخلابة ما يجعلني أعترف لها بالفضل ما حييت ، عشت أتعلم من طبيعتها الساحرة كل شئ ، أدعوك أن تنظر إلى الطبيعة لتتعلم منها ما عجزنا على أن نتعلمه من غيرها ، فكلنا نرى و نحس و نخبر عن الشمس بحرارتها ، و القمر بنوره ، والليل بظلمته ، و البحر بجماله و قسوته ، و الجبال فى شموخها ،و الشتاء فى برده و أمطاره ... الخ . و يشتد إعجابي بذلك البحر فى جماله وبهائه ، و جلاله و لا نهائيته ، يعجبني فيه ديمقراطيته ، فهو لا يأذن ولا يسمح لأحد أن ينغمس في مائه إلا إذا تجرد من كل المظاهر الكاذبة التى خلقتها المدنية : من ملابس تميز بين الغنى و الفقير ، و من الرياء و النفاق ومظاهر اصطنعتها لتجعل من الناس طبقات يتحكم بعضها فى بعض. أرى فى البحر تتساوى الرءوس ، لا غنى ولا فقير ، ولا ذى جاه ولا عديم الجاه ، ولا عالم ولا جاهل ، ولا حاكم ولا محكوم ، لا يتميزون بشئ إلا بلباس البحر . و إن كان حقيقة الأمر ليس هو لباس البحر ، و إنما هو لباس البر ، فالبحر ليس له لباس إلا ماؤه. والدليل على أنه لباس البر ذلك لأن الناس حاولوا به أن يتميز بعضهم من بعض ،و اتخذوا منه شعارا للغنى و الأناقة و الوجاهة ، و البحر لا يعرف شيئا من ذلك، إنما يعرف ذلك البر ، و من أجل هذا لا يكاد ينغمس الناس فى البحر حتى يسدل بمائه الأزرق الجميل ستارا على كل أثواب الرياء ، فلا ترى إلا رؤوسا عارية لا يميز بينها شئ من الصنعة ، فهو يرسل أمواجه تداعب الناس على السواء ، فتغازل الأبيض كما تغازل الأسود ، و تصفع الجميل كما تصفع القبيح ، و تعبث بلحية العالم كما تلعب برأس الجاهل ، و إن ثار هياج موجه ، فإنه لا يفرق بين أحد فى بطنه ،و هو أيضا لا ينسى ديمقراطيته ، يأتى الباخرة الضخمة وقد أخذت زخرفها و ظن أهلها أنهم قادرون عليها فيبتلعها فى لحظة ، كما يبتلع أحيانا صبيا وديعا و شيخا ضعيفا ، ليثبت بأنه لا يعبأ بقوة ولا ضعف ، فما أجمل البحر و ما أجله و ما ألطفه و ما أقساه . ويتبدى بذلك أن الطبيعة فى جملتها ديمقراطية لا أرستقراطية ، فالشمس ترسل أشعتها الذهبية و القمر أشعته الفضية على الناس جميعا ، المؤمن و الكافر ، الأبيض و الأسود ، الغنى و الفقير ، القصر الكبير و الكوخ الحقير. كما يأتي الهواء بريح فتلفع وجوه الناس على السواء ، لا تميز بين عظيما ولا حقيرا ، ولا شريفا ولا وضيعا ، ثم يأتى برياحه الطيبة تنعش الناس لا يعرف محاباة لأحد و لا يعرف طبقات ولا أى نوع من أنواع التفاوت التى يعرفها الناس ، و يرسل فى صيفه شواظا من ناره فيدخل على الغنى فى قصره ، و على الفقير فى كوخه ، فهو لا يهاب عظيما و لا يحتقر وضيعا ،و يرسل فى الشتاء برده القارس ، فلا يفرق بين الناس فى قسوة برده ،ثم تسقط أمطاره شتاءا فلا تكرم غنيا عن فقير ، ولا عظيما عن حقير ، ثم تشاء الطبيعهأن تعدل فى جوها ، فتحضن الناس على السواء وتكون لهم جميعا أما حنونة باره بهم ، فإنها تحدث الوزير مثلما تحدث غفير ، و تتعامل مع الحاكم مثلما تتعامل مع المحكوم . و يأتي القدر فينثر نعمه و نقمه ، وشره و خيره على الناس جميعا ، فصحة فى الأغنياء و الفقراء ، و مرض فى الأغنياء والفقراء . و قد ترى غنى فاتر القوة يتضرر من الألم ، يود لو أخرج كل ماله و جاهه لتعود اليه صحته ، و بجانبه فقير متين البنية تملؤه القوة و الشدة و الصلابة ، ثم تجد جمالا فى الأغنياء و الفقراء ، و ترى قبحنا فى الأغنياء و الفقراء . أنها الطبيعة التى تعلمنا مالا نستطيع أن نتعلمه من غيرها ، فما أسعدنا عندما نخفف غلونا فى الارستقراطية بجميع أنواعها - و نقلد الطبيعة فى ديمقراطيتها و اعتدالها . [email protected]