الرأي عندي أن عام 1948 هو العام الصادم في القرن العشرين, إذ شطره نصفين: ما قبل عام 1948 وما بعده. وكانت مقالاتي السابقة عرضا لما قبل. أما مقالي اليوم فهو نقطة البداية لعام1948 وما بعده حتي نهاية القرن العشرين. والسؤال إذن: ماذا حدث في عام 1948 حتي أقول عنه إنه عام صادم دينيا وفلسفيا وعلميا؟ أبدأ بالصدمة الدينية وأوجزها في تأسيس مؤسسة دينية اسمها مجلس الكنائس العالمي. والفضل في تأسيسه مردود إلي لاهوتي سياسي اسمه جون فوستر دالاس (1888-1959). كان لاهوتيا قبل أن يكون سياسيا, أي قبل أن يكون وزيرا لخارجية أمريكا. فقد اشترك في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الأول لذلك المجلس والذي عقد في امستردام بهولندا في الفترة من23 أغسطس إلي 4 سبتمبر من عام 1948 وكان اشتراكه مردودا إلي فكره اللاهوتي, إذ تصور أن الحرب الباردة حرب دينية عندما ارتأي أن الشيوعية ارهاب بلا إله, وأن القضاء عليها أمر مشروع دينيا. ومن هنا أسهم دالاس في التأثير علي اللاهوت البروتستانتي في تأسيس لاهوت الاحتواء, وفي أن يكون هذا اللاهوت هو لاهوت البيت الأبيض. ومن هنا قيل عن دالاس إنه لاهوتي البيت الأبيض. وقد استعان في تأسيسه بفكر بولس الرسول. ففي خطاب له في 4 أكتوبر 1952 قال: نحن نريد إشاعة مثلنا قبل أن يتمكن طغاة الكرملين من سحق محبة الله.وقد علمنا بولس الرسول أن المال لا قيمة له من غير إحساس بالرحمة ومراعاة شعور الآخرين, ومن ثم فلن نشعر بالسعادة إلا إذا أصبحت سياستنا الخارجية متفقة مع تعاليم ذلك الرسول. وتأسيسا علي ذلك قال في حديث إذاعي في أول يونيو 1953 إن لاهوت الاحتواء يستلزم حلفاء, وليس أفضل من باكستان حليفا لنا لأنها أكبر دولة اسلامية تحتل مكانة مرموقة, ثم هي بحكم ايمانها الروحي تقف ضد الشيوعية بالضرورة. وفي مناسبة أخري دالاس قال إن اللبنانيين هم الجسر بين أمريكا والدول العربية لأنهم مسيحيون وبالتالي تكون توجهاتهم غربية. وفي هذا الاتجاه سار الرئيسان الأمريكيان ترومان وأيزنهاور, إذ اعتقدا أن حقوق الانسان وحريته هي من الله, وأن الشيوعية شريرة لأنها ملحدة. وقد بلور دالاس لاهوت الاحتواء في كتابه المعنون حرب أم سلام (1950), إذ جاء فيه أن ثمة طريقين للقضاء علي المعسكر الشيوعي: طريق سلبي يتمثل في المعونات الاقتصادية والعسكرية, وطريق إيجابي يدور علي ضرورة توحيد كل القوي الدينية. قال: لقد عملت القوي الدينية المتباينة معا في أمريكا من أجل هدف مشترك هو النظام العالمي. وقد وجد البروتستانت والكاثوليك واليهود أنه من الممكن التعاون فيما بينهم رغم تباين العقائد الدينية. ولهذا فان من واجبنا تنمية علاقة مماثلة مع شعوب آسيا والباسيفيك من أجل حماية القيم الانسانية. وهنا أثير سؤالا ولا أطلب جوابا إنما أطلب إثارة الفكر. والسؤال هو علي النحو الآتي: هل تم تأسيس باكستان في أغسطس 1947 من أجل تدعيم لاهوت الاحتواء؟ وأيا كانت الإثارة من هذا السؤال فاللافت للانتباه أن شقيق فوستر دالاس هو ألن دالاس مدير المخابرات المركزية الأمريكية من 1954 إلي 1959 واللافت للانتباه ثانيا أن أفري ابن جون فوستر دالاس (1918-2008) كان أستاذا لعلم اللاهوت بالجامعة الكاثوليكية الأمريكية بواشنطن (1974-1988). وقد التقيته في عام1982 لإجراء حوار معه حول آرائه اللاهوتية في مكتبه بالجامعة وكانت به صورة معلقة علي الحائط لوالده وهو يصافح البابا يوحنا بولس الثاني, وهو البابا الذي أدي دورا رئيسيا في انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991 وكان من بين أسئلتي هذا السؤال: هل يتدخل الله في مسار التاريخ؟ وكان جوابه أن الله يتدخل بالفعل في التاريخ ويتحدث إلي الكنيسة عن طريق علامات العصر, أي مظاهر العصر فيدخل أشكالا جديدة ويحذف أشكالا أخري. وحديث الله يعتبر أمرا إلهيا بالنسبة إلي الكنيسة. ويبين من هذا الجواب أن الفكر اللاهوتي للابن مماثل لفكر الأب. وفي 21/2/2001 منح أفري لقب كاردينال مع أنه لم يكن أسقفا وهو شرط منح اللقب. واللافت للانتباه ثالثا أن المركز الإسلامي الذي كان يرأسه في جنيف سعيد رمضان زوج ابنة حسن البنا (1926-1995) يقع بجوار مجلس الكنائس العالمي وكانا يعملان معا من أجل تدعيم لاهوت الاحتواء. وبعد ذلك يبقي سؤال: هل ستتحول الحرب الثقافية إلي حرب دينية في زمن الحرب الباردة؟