من الصعب أن تستشعر إحساس من يرتدي ملابس الإحرام إلا بعد أن يكتبها الله لك وترتديه فعلا.. ذهبت لشراء ملابس الإحرام, وهناك وقفت مع البائع أتحدث إليه, وأستمع منه إلي أنواع الملابس وأسعارها. وهي تقريبا لها نفس مستوي الأسعار والفروق بسيطة ترجع إلي نوعية خامة القماش نفسها.. أما الشكل وطريقة الصنع فتكاد تكون كلها واحدة.. لونها أبيض ناصع البياض, وطريقة صنعها أنها غير مخيطة فلا تطريز أو اجتهاد في التصميم, وإنما هي ملابس بسيطة عبارة عن قطعتين من القماش.. قطعة علوية وأخري سفلية لستر الجسد والعورات. حينما بدأت في التدريب علي ارتداء تلك الملابس, كانت المشاعر مختلفة, فها هو الإسلام في فريضته الخامسة يساوي بين الجميع.. الكل سواسية لا فرق بين خفير أو وزير, ولا بين ملك أو مواطن عادي, ولا بين غني شديد الثراء وفقير.. الجميع لابد أن يلتزموا بتلك الملابس البسيطة التي لا تمتد إليها الخياطة من أي نوع.. هي فقط لستر الجسد والعورات ليعود الإنسان إلي سيرته الأولي حينما أتي إلي الحياة لأول مرة, ويتم لفه بقطعة من القماش قبل أن تأتي له الملابس من كل الأشكال والألوان.. كما أنها أيضا تذكرنا بنهاية الإنسان حينما يتم لفه أيضا بقطعة قماش في رحلته إلي مثواه الأخير. حكمة بالغة أرادها لنا الله بفريضة الحج إلي بيته الحرام, لينتشلنا من هموم الحياة اليومية وصراعاتها وقسوتها التي أراد لها البعض أن تتحول إلي ماكينة ضخمة تلتهم كل شيء أمامها وحولها لتغتال كل المشاعر الجميلة والمعاني السامية. ملابس الإحرام تجسد معني العدالة والمساواة في أروع وأبسط صورها.. تلك القيم التي بشر بها الدين الإسلامي الحنيف قبل2341 عاما, ومازالت قيما حية تعيش فينا ونعيش فيها حينما نذهب لآداء فريضة الحج وفي كل العبادات التي فرضها الله علينا. لست عالم دين ولا متخصصا في الفقه الإسلامي, وإنما هي مشاعر مواطن طبيعية استشعرتها بمجرد ارتدائي ملابس الإحرام.. وسألت نفسي وبدوري أسألكم السؤال نفسه: لماذا التصارع؟!.. ولماذا التشفي والانتقام؟!.. ولماذا هذه الازدواجية التي يعانيها قطاع ليس بالقليل من المسلمين بالتفرقة بين العبادات والمعاملات, مع أن الدين كما قال النبي صلي الله عليه وسلم المعاملة؟! لن يستفيد الله من عبادتنا في الصلاة والزكاة والحج.. لكنه فرض تلك العبادات وغيرها لتكون رمزا ومعني, ولتتحول تلك العبادات إلي سلوك حياتي يومي في المودة والتراحم والتسامح والإيثار.. لكن للأسف الشديد, فإن أغلب المسلمين اهتموا بالعبادات ولم يهتموا بالمعاملات.. فهاهم يملأون المساجد وتزدحم بهم أماكن الشعائر في مكةالمكرمة, ومازالوا يتعاملون بأسوأ الأساليب.. لا يتناهون عن الكسب الحرام, ولا عن القتل وإراقة الدماء, ولا عن نصب شراك الشر للآخرين بهدف اغتيالهم ماديا أو معنويا.. يقضون الساعات والأيام وربما الشهور والسنوات في حبك المؤامرات والفتن للآخرين, ثم يسمعون الأذان ويذهبون إلي الصلاة, وقد يكونون ممن أدوا فريضة الحج أو في انتظار تأديتها. هذا هو واقع عالمنا الإسلامي للأسف الشديد.. ازدواجية وفصاما وعدم قدرة علي مواجهة الذات, مع أنها البداية الحقيقية لإصلاح الوطن والأمة. نجح الغرب في تحويل القيم الإسلامية النبيلة في التسامح والمودة والصدق والعدالة وغيرها إلي قيم إنسانية تسكن الضمير البشري.. أما نحن, فالمسألة لا تعدو كونها عبادات نؤديها بشكل ميكانيكي وننساها بمجرد تأديتها, وقد حكي لي صديق يعيش في كندا هو وزوجته تجربتهما في شراء سيارة مستعملة معروضة للبيع وكيف قام صاحبها بإعطائهما ورقة بالعيوب كاملة دون نقصان قبل شرائها, بعكس ما حدث لهما قبل السفر مع بائع سيارة أراد أن يخفي عيوب سيارته بكل الطرق والوسائل. ما أحوجنا الآن في عالمنا العربي عموما, وفي مصر خصوصا, إلي استرجاع قيم الإسلام النبيلة في السمو, والارتقاء فوق نوازع الشر والتشفي والانتقام, والاتجاه نحو المستقبل بكل قوة يدا واحدة متسامحة بعيدا عن التطرف والتعصب والكراهية, وأن نتذكر جميعا أن العبادات وحدها لا تكفي, وأن رمزية العبادة وتحويلها إلي معاملة أهم وأبقي لنا في الدنيا والآخرة. نقلا عن جريدة الأهرام