1 كنت أجلس إلي جوار صديقي المخرج مجدي أحمد علي وهو يتقدم بطيئا بعربته في وسط البلد عندما سمعته يقول: تصدق, كلها كام شهر ولن نري هذا التاكسي مرة أخري. حينئذ رحت أتأمل العربة القديمة التي تسبقنا قليلا, بجسدها الكحلي وجوانبها البيضاء. وبدت لي مثل كائن مسكين يتواري في الزحمة ويزفر خجلا, غير قادر أن يدفع الأذي, بعد ما أنكرته المدينة التي صنع أحد أبرز ملامحها, وأنا تخيلت القاهرة خالية منه, ذلك الذي عايشناه عمرا. وانقبض قلبي لما انتبهت أن أيامه انتهت لحساب عربة بيضاء, وقوم مشكوك فيهم. 2 جلست أفكر في تلك الملامح التي تمنح المدن شخصيتها وتميزها والتي تعمق علاقة الناس بها باعتبارها مسألة هوية وألفة وانتماء. ورحت أقول لنفسي, يا رجل, هل نسيت ما صادفته أثناء سيرك علي رصيف مدينة أو أخري, عندما رأيت بناية مغطاة بكاملها بستارة من المشمع الثقيل أو الخيش, ثم لا تلبث أن تعلم من مرافقيك أن ما هو مختبئ ليس إلا الواجهة الكاملة لمبني قديم, بينما البناية نفسها تم هدمها بالكامل, وجري بناؤها من جديد ملاصقة لهذه الواجهة, بحيث إن الستارة ما إن تزال حتي تجد المبني قائما بشرفاته ونوافذه القديمة التي تعرفها. هكذا يظل المبني العريق قائما ولا يفقد الشارع شيئا من ملامحه. وسوف تذهب إلي مقهي الدوم في باريس وتجد الطاولات التي ثبتت فيها شرائط من نحاس تحمل أسماء من كانوا يجلسون إليها سواء للدردشة أو العمل من أمثال همنجواي وسارتر وكامو وسيمون دو بوفوار وسان جون بيرس والآخرين, ولن تنزل بفندق إلا ووجدت أعلي باب الغرفة لافتة باسم فنان أو كاتب مع تاريخ مبيته في هذا الفراش, ثم هل غفلت عن ذلك الفندق في فرانكفورت وتلك الكتابة الذهبية اللامعة علي جداره الرخامي بحروف تخبرك أنه المكان الذي توفي فيه الشاعر الكبير فلان الفلاني, أو هل نسيت أنك مررت بالسيارة في ذلك النفق العميق العريض والمضاء بقوة والذي حفر لكي يمر تحت مجموعة من الأشجار حتي لا يضطروا لإزالتها ويغيروا ملامح المكان؟ أم تراك مررت بالحي اللاتيني في باريس وانحرفت لتجد نفسك أمام مسرح (الاسكوريال) الذي يعرض (المغنية الصلعاء) للمسرحي الشهير يوجين يونسكو 1919 1994( صاحب مسرحيتي الخرتيت والكراسي اللتين شاهدناهما علي مسارح قاهرة الستينيات) ثم لا تلبث أن تعلم أن هذه المسرحية تعرض منذ ليلة عرضها الأول عام 1951, وهي تعرض بصفة يومية. رحلت أجيال من المخرجين والممثلين والفنيين إلا أن العرض ما زال قائما, ويقال لك إنك إذا ذهبت في مرحلة من عمرك إلي مكان ما, وليكن مسرحا علي سبيل المثال, وشاهدت شيئا أو عرضا, ثم مضت سنوات وساقتك قدماك إلي هناك لتجد نفس المكان كما هو أو نفس المسرح ونفس العرض. هذه استعادة للسنوات التي خلت والعمر الذي أضعت. هذه هي الذاكرة المشتركة مع المكان. وهم يصنعونها لك بدرجة عالية من الخيال والوعي, بينما هدمنا نحن فيلا أم كلثوم, وتركنا بقية منازل مبدعينا الكبار للخراب. 3 تري لماذا أتذكر الآن مثل هذا الكلام الذي لا يبدو فارغا تماما؟ أتذكره لأن هذا الإجراء المشبوه والذي تغير بسببه لون التاكسي الأبيض والكحلي, اللون الذي ارتبط بذكريات أجيال كاملة, هذا الإجراء وما رافقه من أحزمة وحقائب إسعاف ولوحات معدنية من الصفيح الجديد, كنا تابعناها جميعا ونحن علي يقين أنها من قبيل التحايل غير المشروع ولا شك, وليس أدل علي ذلك من أن أطول رئيس وزراء عرفته مصر والعالم, والذي لا يعيش أبدا إلا داخل جدران قرية بالغة الذكاء, تتم مساءلته أمام النائب العام بسبب تلاعبه في صفيح هذه اللوحات المعدنية, وهو الأمر الذي لا يملأ نفس الواحد بالغضب أو الدهشة ولكنه يملؤها بقدر هائل من الإحساس بالعار. لذلك قلت إنه لولا الملامة لطالبت بمليونية تعيد لتاكسي القاهرة لونه المنهوب. ولكنني أثق, طبعا, أنه لا حياة لمن تنادي. 4 غادرت العربة إذا وتركت صديقي المخرج يركنها, ووقفت علي الرصيف أعزي نفسي بأن التاكسي الأبيض والكحلي الجميل, سوف يقتص لنفسه, لأنه باختفائه سوف يخلف القاهرة وراءه مجرد عاصمة كبيرة, وصلعاء. نقلا عن جريدة الأهرام