الحديث عن بيع قلاعنا الصناعية والشركات والمصانع تحت عباءة الخصخصة.. حديث شرحه يطول عن الأسباب والدوافع. والأساليب المبتكرة لتنفيذ الخصخصة. والنتائج السيئة لها. حديث "مُر" وأشد مرارة من العلقم.. كلنا نحسه في أفواهنا.. والجهة الوحيدة التي لاتشعر بهذه المرارة هي الحكومتان الحالية والسابقة. ولأن الحكومة السابقة التي بدأت مجزرة الخصخصة اصبحت في ذمة التاريخ بعد أن سلمت الراية لمن تلاها.. فليس أمامنا سوي الحكومة الحالية لنحاسبها. الناس في هم وغم مما يحدث في هذا المجال.. وحكومتنا تصر في غرابة وتحد كارثي علي المضي في البيع.. وهو ما دفع محمد فريد خميس رئيس لجنة الانتاج الصناعي والطاقة بمجلس الشوري إلي أن يخرج عن شعوره خلال مناقشة أحوال شركات الغزل والنسيج عامة وشركتي المحلة الكبري وكفر الدوار خاصة.. وبعد الكلام المحبط من محسن جيلاني رئيس الشركة القابضة للغزل والنسيج أمام اللجنة. الموضوع أكبر من أن يناقش في هذه المساحة الضيقة.. ولكن ما اخطه اليوم هو مجرد رسالة للحكومة تقول لها : أوقفوا الحرب علي القلاع الصناعية. المناقشات التي دارت في لجنة الانتاج الصناعي والطاقة بمجلس الشوري لخصت الأسلوب المبتكر الذي اتبعته الحكومتان السابقة والحالية لبيع القلاع الصناعية والشركات والمصانع. الأسلوب يتلخص في كلمتين "المعاش المبكر".. حيث يتم دفع العاملين الي الخروج للمعاش المبكر.. وبالتالي تفريغ الشركة أو المصنع من كل أو معظم أو حتي بعض قوتها الضاربة سواء بالتراضي أو بالضغط علي العاملين عن طريق الحرمان من حقوقهم.. ومن هنا يكون الطريق قد اصبح معبداً للبيع. وهذا ما حدث في كل شركة أو مصنع تم بيعه أو يجري الاعداد لبيعه وآخرها شركة النصر للسيارات التي كنا نتحاكي بها وتعد إحدي قلاعنا الصناعية.. اليوم سيتم طرحها للبيع لمستثمر رئيسي بنظام حق الانتقاع لمدة 50 سنة بعد أن انخفضت العمالة بها من 7 آلاف عامل إلي 250 عاملاً فقط نتيجة "تفنيش" العمال بنظام المعاش المبكر "الاختياري الاجباري"! * * * نعود إلي لجنة الانتاج الصناعي بالشوري.. وكانت تناقش احوال شركات الغزل والنسيج خاصة شركتي المحلة الكبري وكفر الدوار حيث أشار محمد فريد خميس رئيس اللجنة إلي أنه تم وضع منظومة لحماية هذه الصناعة منذ سنوات وتحدد 120 مليون دولار لدعمها وفرتها بالفعل وزارة التعاون الدولي.. إلا أن وزارة الاستثمار انفقت المبلغ علي أكبر كارثة في مصر وهي نظام المعاش المبكر.. وبالتالي راحت الفلوس.. ونسعي الآن لتوفير 80 مليون يورو أخري! هنا.. رد عليه محسن جيلاني رئيس الشركة القابضة للغزل والنسيج باستفزاز : ان مصانع المحلة وكفر الدوار ليس أمامها سوي ثلاثة حلول : إما الاغلاق أو الاصلاح أوالبيع!! وكأنه يتحدث عن دكان بقالة أو محل فول وطعمية وليس عن قلاع صناعية كم تباهينا بها امام العالمين!! ولأن فريد خميس يعلم قبل غيره أنه لانية لدي الحكومة للاصلاح نتيجة الحرب الشرسة المتعمدة التي تتعرض لها صناعة الغزل والنسيج الوطنية.. تارة بعدم توفير القطن لها والمغالاة في سعره المحلي وتفضيل تصدير انتاجنا من القطن عنها. وتارة أخري بغلق محابس الاستيراد بالاضافة إلي رفض بعض الدول مدنا باقطانها. وتارة ثالثة بالسماح بتهريب الملابس المستوردة عبر ميناء السخنة. ولأن فريد خميس يعلم كذلك أن الحكومة لن تتحمل نتائج الغلق وانفلات العمال. بالتالي فليس أمامها سوي أن تترك هذه الشركات حتي تخرب ثم تبيع المصانع بتراب الفلوس.. ولذا فانها ترتكب هذه الاجراءات لتحقيق الغرض المنشود.. وهو البيع: 1 عدم مدها بالأقطان المحلية أو المستوردة. 2 التوسع في طرح المستورد من الملابس الجاهزة. 3 انشاء كيانات اقتصادية خاصة.. بدأ الحديث عنها في كفر الدوار ثم سيتلوها كيان آخر في المحلة لجذب العمال المهرة من قلاعنا للعمل بها. 4 تشجيع عمال الغزل علي الخروج للمعاش المبكر.. بالتراضي أو بحبس مواردهم وتحمل وقفاتهم الاحتجاجية بالوعود الوردية.. لينضم هؤلاء العاملون إلي طابور العاطلين.. ومنهم من يتجه للاجرام رغم انفه. ولأن فريد خميس يعلم كل ذلك.. شاط وخرج عن شعوره مهدداً جيلاني بكلمات اقوي من طلقات الرصاص إذا مس احدي شركتي المحلة وكفر الدوار.. مختتما تهديده بعبارة: كفايه بعتوا مصر كلها ومش فاضل حاجه"!! * * * نعم.. هناك حرب شرسة ومنظمة ومتعمدة ضد القلاع الكبري للغزل والنسيج.. فليس من باب الصدفة البحتة أن يرفع الفلاح سعر قنطار القطن إلي 1800 جنيه - حسب آخر تصريح لوزير الزراعة- بعد أن كان 700 جنيه علي أكثر تقدير في نفس الوقت الذي تتوقف فيه عدة دول عن امدادنا بالأقطان.. وتغميض العين عما يحدث في ميناء السخنة حيث تخرج التريللات محملة بالملابس المستوردة التي لاتدفع عنها جمارك بدعوي أنها متجهة الي ليبيا مثلاً وفي الطريق تتسرب الحمولة بالكامل لتجار الجملة والتجزئة تحت بصر الحكومة دون أن تتدخل.. ثم تطلق الحكومة رصاصة الرحمة علي هذه القلاع وتلك الصناعة بانشاء كيانات كبري تنافسها. صمت حكومي رهيب أمام اغلاق أكثر من 50 مصنعاً بالمحلة فقط وما يجري للباقي.. ليس له سوي معني واحد.. ان الحكومة قررت فعلاً بيع مصانع الغزل والنسيج.. وان المسألة.. مسألة وقت فقط!! هذه أمانيهم.. لكن ما سيكون غير ما يتمنون. سكتنا.. وهم يبيعون الشركات والمصانع.. واحدة وواحداً تلو الأخري والآخر.. وقيل إن معظمها جهات صغيرة. حدثت مشاكل كثيرة بعد البيع.. وتم حل بعضها ومازال البعض الآخر مستمراً ويكبر.. ونحن صابرون. لكن.. أن يصل الأمر إلي النصر للسيارات. ثم المحلة الكبري وكفر الدوار "علي خريطة المجزر".. لا.. وألف لا. لن يسمح لهم أحد بأن يمسوا المحلة الكبري وكفر الدوار ولو لم يكن بها عامل واحد.. ولو أفرغوها من البشر والحجر. ماذا في جعبتك يا حكومة بعد النصر للسيارات التي أصبحت اسماً علي غير مسمي.. فلا نصر. ولا سيارات؟ هل ستتجاسر الحكومة بعد ذلك.. و"تضرب مفك" في شركة الحديد والصلب بحلوان وفي مصنع الألومنيوم بنجع حمادي مثلاً؟ دول اللي فاضلين مع شركات الغزل بعد أن باعت الحكومتان "الذكية" الحالية. و"الأكثر ذكاء" السابقة.. كل مصر. * * * بالمناسبة.. عندي قصة ظريفة تكشف لنا تفكير الحكومات. كنت في زيارة لألمانيا مع رحلة أوائل الثانوية العامة التي تنظمها جريدة "الجمهورية".. وشاءت الأقدار أن تكون هذه الزيارة بعد "الوحدة الألمانية". زرنا مدينة برلين التي كان يشقها سور عملاق ويشطرها إلي مدينتين واحدة في ألمانياالشرقية والأخري في ألمانياالغربية. بعد الوحدة ازيل السور وعادت المدينتان مدينة واحدة وموحدة وعاصمة لألمانيا الاتحادية. طوال الطريق من ميونيخ في الجنوب إلي برلين في الشمال الشرقي والذي يمتد حوالي 600 كيلو متر لاحظت ان العمل علي قدم وساق لإعادة تعبيد الطريق بنسف القديم وإقامة جديد مكانه.. رغم ان القديم في حالة ممتازة.. بل ولن يقيموا مثله لأن الزعيم النازي ادولف هتلر أقامه بمواصفات مهابط الطائرات حتي يكون بديلا للمطارات إذا ضربت. طبعاً السبب الحقيقي.. هو محاولة طمس أي عمل لهتلر. وفي برلين.. لاحظت أيضاً أن هناك مبني تابعاً لوزارة الخارجية عمره 4 سنوات فقط ضربوا حوله سياجاً تمهيداً لهدمه. سألت عن السبب فكان الرد مضحكاً.. قالوا: اكتشفنا ان به "فيروس"!!! يومها قلت: "فيروس الشيوعية" مثلاً؟.. وكادت كلمتي هذه تتسبب في أزمة حيث وجهت كلامي وقتها لرئيس المدينة شخصياً وبشيء من السخرية. من هذا يتضح ان الحكومة الألمانية كانت ضد أمرين.. هتلر والشيوعية.. وكانت تحاربهما بكل الوسائل ولا تريد أن تبقي علي شيء يذكر الناس بهما. القصة أهديها لحكومتنا الذكية وللحكومة التي ستليها ولا أعرف صفتها حتي الآن هل ستكون ذكية أيضاً أم أكثر ذكاء.. لاختراع أمر وهمي مثل "الفيروس" تبيع بمقتضاه البقية الباقية من مصر.. أو بمعني أصح.. "بواقي مصر". ما رأيكم.. دام فضلكم؟