في أحد الأيام قام رسول الله "صلي الله عليه وسلم" وخص المهاجرين ببعض الغنائم التي اكتسبها المسلمون. ولم يعط الأنصار شيئاً. هذا التصرف من جانب الرسول "صلي الله عليه وسلم" أثار غضب هؤلاء الأنصار. وصارت بينهم أحاديث تعبر عن استيائهم. وتناقلت أنباء هذا اللغط من لغو الحديث الذي قد يثير أحقاداً وضغينة. وربما تؤدي إلي خلافات بين هذين الجناحين من أصحاب رسول الله "صلي الله عليه وسلم". في وسط هذا الجو الملبد بالغيوم في حي الأنصار. بلغ سيد الخلق "صلي الله عليه وسلم" أخبار هذا الحديث ذو الشجون. فاستقبله الرسول "صلي الله عليه وسلم" بهدوء وبكل رحابة الصدر. وبمبادرة من جانبه طلب جمع الأنصار في مكان تم تحديده. في هذا الاجتماع حسم الرسول الأمر بطيب من العبارات التي تدفع الحب للقلوب. وتبعث المودة في نفوس هؤلاء الرجال الذين فتحوا قلوبهم قبل بيوتهم أمام رسول الله "صلي الله عليه وسلم" ولأصحابه من المهاجرين. خاصة أن الله تبارك وتعالي قد امتدح موقفهم النبيل في آيات القرآن الكريم: "والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا. ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" "الحشر: 9". في مودة قال الرسول: يا معشر الأنصار لقد كنتم علي مستوي المسئولية ومواقفكم مشرفة. وبعد أن امتدح شهامتهم وإيثارهم كما أشار إلي هداية الله لهم بفضل الإسلام. ونبي الدعوة المحمدية. كما أفاء الله عليهم بأن ألَّف بين قلوبهم. ثم أعلن عن موقف يفيض بالحب والمودة والمشاعر الطيبة. حيث قال: يا معشر الأنصار. أما ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير بينما أنتم ترجعون برسول الله؟!.. هذه المشاعر المتدفقة المليئة بدفء الحنان والمودة التي تفجرت ينابيعها في كلمات رسول الله "صلي الله عليه وسلم". تقديراً ووفاء لهؤلاء الذين وقفوا حول رسول الله بصورة سوف تظل علي مدي التاريخ نموذجاً مشرفاً في الصدق والسخاء بكل المعاني. وقد حركت تلك العبارات في نفوس الأنصار مشاعر الإيمان ورفضوا بكل قوة نوازع الغضب وحب الحصول علي الغنائم ودوافع الامتلاك كأقرانهم من المهاجرين. وفي إباء منقطع النظير شجبوا في داخلهم تلك النزعات التي حركها الشيطان في نفوسهم. وتعالي نور الإيمان في الصدور. وسط هذا الجو المفعم بمشاعر الحب والإيمان والإخلاص قال الأنصار رداً علي تساؤل رسول "صلي الله عليه وسلم": "أترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله"؟!.. لا نرضي برسول الله بديلاً. إنه أكبر من كل متاع الدنيا. وتذكروا المواقف التي تجلت في تعاملهم مع سيد البشرية. فهو الذي بذل جهوداً مضنية أخرجتهم من مساحات النزاع والشقاق والقتال الدائم إلي واحة التآلف والإخاء. وبفضل هذا الإخلاص الذي انبعث في صدور هؤلاء الرجال قالوا: لا نرضي برسول الله بديلاً.. إنه النور الذي أخرجنا من الظلمات إلي النور. وبفضل دعوته وحبه لهذه الديار تحولت من كونها مدينة كسائر المدن التي امتلأت بها الجزيرة العربية إلي شأن آخر. فقد أصبحت منارة لأهل العلم والإيمان. وكل المسلمين في شتي بقاع الأرض. إليها تشد الرحال. وتضم بين جنباتها أفضل خلق الله أجمعين. إننا نبادل الرسول الكريم حباً بحب. فهو الذي أهدانا إلي الصراط المستقيم. وأخذ بأيدينا نحو البناء والتعمير. وهلت علينا البركات منذ قدومه إلي المدينة. وسوف تظل علي مدي الزمان منارة. وساحة تستقبل الوفود يومياً. كل ذلك قد أضفي علي مدينتهم أجل معاني البهاء والجمال. وصارت أهم المعالم في الوفاء. والحب والتقدير. ونبعاً لمكارم الأخلاق والوفاء والكرم والإيثار بكل معانيه. أفاض الأنصار في مشاعرهم الإيمانية وتبدلت الأحاديث الغاضبة إلي حوارات حب وتذكير بما فعله رسول الله "صلي الله عليه وسلم" معهم. وأكبر هذه المعاني اختيار المدينةالمنورة للإقامة بها حياً وميتاً. وكفي بهذا شرفاً. أن الرحمات قد تدفقت علينا من السماء. فكيف نرفضها. إن جوار رسول الله "صلي الله عليه وسلم" شرف لا يدانيه أي شرف آخر. إنه الحب والإيمان ومصدر البركات والرحمات. مرحباً بجوارك يا سيد الكونين. ورحمة رب العالمين لسائر البشر أجمعين. ومرحباً في خدمتك وخدمة دعوتك التي أشرق نورها في كل أنحاء الدنيا. وتفجرت المشاعر بكل المعاني الطيبة. هذا النموذج الذي تجلي في حب رسول الله "صلي الله عليه وسلم" وحلمه في مواجهة مشاعر الغضب التي ظهرت في أحاديث الأنصار. وفي ذلك الحوار البناء الذي جري من رسول الله "صلي الله عليه وسلم" مع هؤلاء الرجال. وقد تجلت خلاله كل معاني الصدق والحب والإخلاص. وقد وجد الأنصار الحقائق ناصعة في حديث رسول الله النابع من القلب معبراً عن أجل المعاني الإنسانية النبيلة التي تربط بين قلوب البشر. تسامح الرسول عن كل كلمات الغضب وذكرهم بمواقفه معهم ومواقفهم معه. وبسعة الصدر وقوة الإرادة والتحمل. استطاع الرسول انتزاع كل مشاعر الغضب وتبدلت إلي مشاعر حب امتلكت وجدان هؤلاء. وتعالت صيحاتهم بالوفاء والتقدير. ولا شك أن التسامح واتخاذ المبادرة للمصالحة مع الأطراف الذين وقعت بينهم خلافات في وجهات النظر. إنها أفضل الوسائل بلا منازع للخروج من الأزمات. كما أن الصبر واحتواء مشاعر الغضب والسيطرة عليها تقود كل الأطراف المتنازعة إلي مواجهة التحديات صفاً واحداً وبفضل هذه الوحدة وذلك الحب تنطلق كل الأطراف إلي العمل الجاد بكل جهد وإخلاص من أجل أن يعم الخير الجميع. ليتنا نستلهم هذه المعاني الطيبة. وذلك التاريخ المفعم بأجل المشاعر. خاصة ونحن نعيد بناء مصرنا العزيزة. دعوات من القلب بأن يوحد الله بين القلوب. وأن يلهم كل طوائف شعبنا الصواب في الفكر والقول والعمل.. إنه سميع مجيب.