مما لاشك فيه أن الإبداع أحد اهم مظاهر التقدم الحضاري والتأليف الموسيقي من أرقي الإبداعات الفنية ولكن للأسف هنا في مصر كان من اكثر الفنون التي لم يتم الإلتفات إليها بل كان هناك تعمد لتجاهلها ولهذا كان الحفل الذي اقامة اوركسترا الساقية الوتري بقيادة المايسترو الشاب محمد سعد باشا في قاعة الحكمة بساقية الصاوي تحت عنوان "أمسية الموسيقي المصرية" من اهم الحفلات التي اقيمت في الساحة الموسيقية ليس فقط لأنها أحيت التأليف الموسيقي المصري وأعادت له الإعتبار ولكن لأنها قدمت مؤلفات علي درجة عالية من التطور تحت قيادة متميزة تجعلك تشعر بالفخر والإعتزاز بأبناء مصر المبدعين. الأوركسترا أوركسترا الساقية تم تأسيسه منذ سنتين في مبادرة طيبة تحسب للمهندس محمد الصاوي ويتكون الفريق من حوالي 15 عازفا للآلات الوترية "الكمان والفيولا والتشيللو والكونترباص" أما قائد الفريق ومؤسسة المايسترو محمد سعد باشا فهو ايضا من المؤلفين الواعدين الذي يستحق كل الفخر الذي شعرت به تجاهه لأنني منذ فترة طويلة لم اشاهد قائداً شاباً مصرياً متمكناً في القيادة يجمع بين الحرفية والموهبة ومازلت اتعجب كيف لا تستفيد منه دار الاوبرا. نضج وتطور البرنامج تضمن 7 مقطوعات قدم باشا خلاله مقطوعة من تأليفه بعنوان "الإسكندرية" وصل فيها لمرحلة عالية من النضج الفني كما كان واضحا فيها الحس المصري ووضوح الإيقاع الداخلي والإعتماد علي تكرار جملة لحنيه محددة المعالم تتميز بثراء وتنوع مع استثمار لتباين الرنين الصوتي بين الآلات الحادة والغليظة. بداية البرنامج كانت مع إحدي مؤلفات احمد الحناوي للأوركسترا الوتري بعنوان " ليلة مشمسة" والتي كان عنوانها معبرا عنها فقد كانت مقطوعة مشرقة اعتمدت علي السرعة منذ البداية واستخدم فيها الإيقاع المتصل في الخلفية والذي تؤديه آلة الكونترباص كما قدم الجملة اللحنية ذات التنويعات والنمو كما انه استخدم كل إمكانيات آلات الأوركسترا الوتري بحرفية تؤكد إمتلاكه لأدواته وخبرته الكبيرة في إستغلال المساحات الصوتية للآلات الوترية. تضمن البرنامج ايضا مقطوعة بعنوان "مقاطع من قصيدة مختلفة" للمؤلف رمز صبري جاءت تصويرية تمتاز بشاعرية ونعومة منذ بدايتها الهادئة ولكن الجديد أنه استخدم الالات بشكل غير تقليدي مثل التعبير عن الهدوي والشاعرية بالنغمات الصادرة من الآلات الغليظة وما يعبر عن القوة والشدة من آلات الكمان ذات النغمات الحادة كما انه قدم لنا ألحانا تبادلية من خلال حوارات بين الآلات الغليظة والحادة. روعة المنمنمات أما درة هذا البرنامج فكانت مقطوعة بعنوان "منمنمات" للمؤلف محمد عبد الوهاب عبد الفتاح حيث تمثل تطور وحداثة متوقعة من هذا الفنان الذي يعد رائدا مصريا في مجال الموسيقي ذات الوسائط الالكترونية ولكنه هنا فاجأنا بهذا العمل الذي لا يمثل احدث مؤلفاته ولكن يؤكد موهبة وتقنية وعلماً يمتلكهم هذا الفنان القدير والمقطوعه أري انها تعد اختبارا جيدا للمايسترو والعازفين نجحوا فيه بامتياز حيث انه عمل يعجز عن تنفيذه الهواة لأن العمل صعب ودقيق كما يدل اسمه ويصفه مؤلفه "إنه متتابعة للاوركسترا الوتري تتكون من 9 حركات متباينة الاجواء الموسيقية مكتوبة باسلوب مختصر وشديد الإيجاز مستخدما فيها طرقا مبتكرة من التدوين الموسيقي الحديث يطلق عليه التدوين الخطي.. ويتضمن العمل عدداً من الألوان الصوتية غير التقليدية تؤدي بأساليب مبتكرة عن طريق العزف بالقوس والنبر ويؤسس هذا العمل مدرسة رومانسية جديدة في التأليف المصري المعاصر هي مدرسة ما بعد الحداثة المصرية .. التوصيف جيد ولكن الاستماع له يمثل متعة لعشاق الموسيقي ودرسا كبيرا للدارسين والمتخصصين.. الحفل أختتم بمقطوعة للفنان راجح داود الذي يمثل الجيل السابق لمعظم هؤلاء المؤلفين وكان اختيارا موفقا خاصة أن مؤلفاته لها طبيعه تعبيرية تجذب المستمع وهذا العمل كان بعنوان "أربعة مقطوعات للأوركسترا الوتري".. إفتخار واخيرا هذا الحفل كما سبق ان ذكرت يبعث علي الفخر أولا بالمايسترو الذي نجح في اختيار برنامجه وفي قيادته الواعية القديرة وبالمؤلفين المبدعين وبهذه المجموعة الماهرة من العازفين. والسؤال الذي يطرح نفسه متي نري مثل هذا الحفل في الأوبرا؟؟