ومصر تخوض هذه المرحلة الفاصلة في تاريخها استعدادا للانطلاق نحو آفاق مستقبل أكثر اشراقا في رحاب مناخ الحرية والديمقراطية التي تنسم الشعب عبيرها بعد ثورة يناير التي أشعل الشباب شرارتها وفي وسط هذا الكم الهائل من المناقشات والحوارات الساخنة بين مختلف الطوائف والفئات حول من سيحكم البلاد في المرحلة المقبلة وكيف تدار في إطار من العدالة التي يجب أن يفرض بها كل فرد دون حجر علي رأي أو قيد علي فكر. في هذا الجو المفعم بالحيوية وثراء الحوارات نتطلع إلي تاريخ الأمة الإسلامية واستعراض بعض المواقف المشرقة حول علاقة الحاكم بالأمة لعلها تضيء لنا معالم الطريق ونحن نستشرف المستقبل واستلهام هذه النماذج لعلها تقودنا إلي رحاب المصارحة والشفافية التي يجب أن تكون أساس العلاقة بين الحاكم والرعية. يأتي في مقدمة هذه النماذج ذلك الموقف المشرف الذي دار بين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي تولي أمانة مسئولية الحكم بعد أبي بكر الصديق وبين سعيد بن عامر الجمحي الذي ولاه ادارة شئون منطقة في الشام لكن الأهالي جأروا بالشكوي من سعيد بن عامر ووجهوا إليه سيلا من الاتهامات وحتي لا تتسرب الشائعات ويتولي المنافقون ترويجها استطاع عمر بن الخطاب القضاء عليها في مهدها فقد استدعي سعيد بن عامر في حضور الأهالي أصحاب الشكوي وكان هذا الحوار الديمقراطي الذي جري في مناخ يتمتع بكل حرية ودون أي ضغوط من أي نوع وفي مواجهة ومقابلة بين كلا الطرفين وبصراحة وشفافية تستهدف نزع فتيل الأزمة التي تنشب بين المسئول والجماهير نتيجة ما يحدث من مشاكل علي أرض الواقع وتصبح مثار شكوي للناس. في علانية وعلي مرأي ومسمع من الجميع كان اللقاء بين أصحاب الشكوي وسعيد بن عامر وفي المواجهة سأل عمر بن الخطاب ما هي تفاصيل الشكوي؟ قال الناس نشتكي من أربعة أمور هي: * ان سعيد بن عامر لا يستقبل أحدا من الناس قبل أن يتعالي النهار ويتضح للجميع؟ * لا يستقبل أحدا بالليل؟ * يختفي يوما في الشهر ولا يراه أحد؟ * في بعض الأحيان تصيبه نوبة من الأعياء.. أي يغمي عليه مما يعطل بعض الشئون؟ وقبل أن يجيب سعيد بن عامر كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يردد فيما بينه وبين نفسه: "اللهم لا تخيب ظني فيه" لأنه هو الذي اختاره لادارة شئون هذه المنطقة من الدولة الإسلامية التي اتسعت رقعتها في عهد عمر. وفي المواجهة قال عمر بن الخطاب ما هو قولك يا سعيد في الشكوي الأولي؟ * قال: بالنسبة للأمر الأول: فإنني لا استطيع استقبال الناس إلا عندما يتعالي ويتضح النهار. لأنني ليس لدي خادم فأنا أتولي تحضير الدقيق وعجنه وانتظر حتي يختمر ثم اتولي اعداده خبزا ثم أخرج للناس. * أما حكاية انني لا استقبال أحدا ليلا فإنني منذ دخلت الإسلام جعلت النهار للعمل والعباد والليل لعبادة ربي. * أما عن اختفائي يوما في الشهر فإنني أمتلك ثوبا واحدا وفي هذا اليوم يتم غسله واعداده لكي أرتديه. * أما الشكوي الخاصة بالغيبوبة التي تصيبني فإن هذا الأمر يرجع إلي اليوم الذي شاهدت فيه خبيب بن عدي وهو يتعرض للتعذيب علي ايدي المشركين في مكة ولم استطع مساعدته لانقاذه من هذه الحالة بينما كان هو في منتهي الثبات وذلك حينما قالوا: هل لو جاء محمد مكانك فيتعرض للتعذيب وانت تصبح حرا؟ فيرد بكل ثبات قائلا: والله لا أحب أن يتعرض محمد لأي أذي حتي الشوكة يشاكها فيتفننون في تعذيبه بينما هو يردد: ولست أبالي حين أقتل مسلما علي أي شق كان في الله مصرعي أضاف سعيد بن عامر قائلا أمام عمر والناس في هذا المشهد: انني حينما اتذكر هذا اليوم تصيبني اغماءة. ثم أفيق بعد مدة لوعة وحزنا علي هذا الموقف المتخاذل. وفي هذه اللحظات اتضحت الحقيقة أمام الجميع. محاسبة من الحاكم للمسئول الذي أسند إليه ادارة شئون منطقة من الدولة الإسلامية وقد انصرفت الجماهير وقد ازيلت من الصدور كل الشكوك التي كانت تتردد علي الألسنة وازيح الستار عن الغموض في تعامل المسئول مع الجماهير التي كانت متعطشة لمعرفة الحقائق حول حياة الرجل المكلف بادارة شئونهم وقد انصرف الناس والقناعة تملأ صدورهم بأن كل شخص يتعرض للمساءلة والمحاسبة مهما يكن مركزه أو مكانته. من الأمور التي يجدر بنا ذكرها في هذا المقام لتوضيح الذمة المالية لسعيد بن عامر وليكون نموذجا لأي إنسان يتولي أمرا من أمور المسلمين وغيرهم فقد بعث إليه عمر بن الخطاب وبعث افرادا لمراقبة تصرف سعيد بن عامر بشأنها فما كان منه إلا ان قام بتوزيعها علي بعض الاشخاص من المستحقين لهذه الأموال ولم يستأثر بأي شيء منها لنفسه. من هذا السلوك علي سبيل المثال أيضا ان عمر ارسل لسعيد اربعمائة دينار لكي يصرفها لنفسه وأهله. لكنه جلس في بيته حزينا مهموما فلما رأته زوجته وهو علي هذا الحال بادرته قائلة: ماذا حدث يا رجل. هل حدث مكروه لأمير المؤمنين؟ فيقول: أكثر. تضيف هل اعتدي أحد علي حدود المسلمين؟ فيجيب أكثر فتسأله إذن مما تخاف؟ فيقول: اخاف منك أنت؟ فتقول: كيف يا رجل. فيخبرها بما بعث به عمر من أموال لكنها تبادره بقولها لا تخف ولا تحزن.. تصرف في هذا المبلغ كما يحلو لك فطلب منها خرقة لكي يضع فيها مبلغا لفرد من المستحقين. فتسلمه قميصا قديما. فيمزقه ثم يبعث في كل جزء مبلغا لواحد من الفقراء. انها براءة الذمة وتصرف من مسئول يريد ارضاء ربه. ويريح ضميره. يسأل نفسه من أين لك هذا؟ قبل ان يسأله أحد. لا خوفأ من الفقر والثبات علي المبدأ. ولا شك ان تصرف عمر بن الخطاب مع سعيد بن عامر من النماذج الرائعة التي نقلتها لكل الأجيال كتب السيرة والتراجم في سطور توضح مدي التزام هؤلاء بتوضيح كل الحقائق للشعب بلا لبس أو غموض ومحاسبة أي مسئول أيا كان موقعه أو مكانته. اننا نضع هذه النماذج لعلها تكون نبراسا لكل من يتولي أي مسئولية من شئون الأمة لعلها تأخذ بيده إلي طريق الصواب والحق والعدل. دعاء ربنا هب لامتنا من يصلح شأنها. ونجنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن. ربنا هب لنا من أمرنا رشدا ونسألك أن توفقنا إلي ما يصلح أمورنا في الدنيا والآخرة.