لم تكن مصر في حاجة إلي فتنة جديدة حتي تأتي صدمة زيارة المفتي للقدس لتزيدها صخباً وضجيجاً.. ولم تكن مصر في حاجة إلي انقسام جديد حتي تنقسم علي فضيلة المفتي وخطوته غير المحسوبة التي فاجأت الجميع.. وأول من فاجأته فضيلة الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر الذي يرأس المؤسسة الدينية الإسلامية في مصر أدبياً.. حتي ولو كان المفتي علي الورق يتبع وزير العدل. ولكي نري الصورة علي حقيقتها وخطورتها فإن علينا أن نذكر فضيلته بأنه لايمثل نفسه كشيخ من آلاف بل ملايين الشيوخ الذين ينتمون إلي الأزهر الشريف وإنما هو مفتي الديار المصرية.. الذي يقف علي رأس واحدة من أهم مؤسساتنا الدينية.. المنوط بها الفصل بين الحرام والحلال.. وعندما تهتز هذه الرأس وتخرج علي الإجماع الوطني تسقط مهابتها والقيمة العالية التي تمثلها في المجتمع. بالتأكيد.. الشيخ علي جمعة يدرك جيداً أن الشعب المصري لديه حساسية رهيبة تجاه قضية التطبيع مع العدو الإسرائيلي الصهيوني.. وأن زيارة القدس والمسجد الأقصي تحت الاحتلال تعد من الخطوط الحمراء التي لايقترب منها مواطن يعي جيداً قيمة الإجماع الوطني.. فما بالك بفضيلة المفتي؟! وقد شهدت الأيام القليلة الماضية ضجة واسعة عندما قامت مجموعات من إخواننا المسيحيين بخرق هذا الإجماع الوطني وتجاهل تعليمات البابا شنودة بعد وفاته بعدم الذهاب إلي القدس إلا مع إخوانهم المسلمين وسافرت هذه المجموعات لزيارة الأماكن المقدسة هناك وجرحت مشاعر المصريين جميعاً.. كما أثيرت ضجة أخري منذ أيام في أعقاب زيارة الحبيب علي الجفري الداعية اليمني الشهير مع أحد أمراء الأسرة المالكة في الأردن إلي القدس والصلاة في المسجد الأقصي. والشيخ علي جمعة رمز إسلامي ووطني.. ولذلك كان عليه أن يحسب لخطوته ألف حساب قبل أن يخطوها.. بل كان عليه أن يستشير شيخ الأزهر رئيس مجمع البحوث الإسلامية الذي هو عضو فيه.. بل كان عليه أن يعود إلي مؤسسات الدولة التي يمثلها ويستأذنها.. فإن مصر لم تهن إلي هذه الدرجة.. ولاتستحق منه أن يستخف باسمها ومكانتها وبإرادة شعبها. لقد كان طبيعياً ومنتظراً ان تخرج الأصوات الرافضة لهذه الزيارة لتعبر عن غضب المصريين من جرأة المفتي غير المسبوقة علي خرق الإجماع الوطني.. وقد وصفت هذه الأصوات زيارة المفتي بأنها "عار" و"فضيحة" و"كارثة" و"سقطة" و"إساءة لمنصب المفتي".. واتجه كثيرون إلي المقارنة بين موقف المفتي وموقف البابا شنودة الصلب في رفضه لزيارة القدس تحت الاحتلال.. حتي لايعطي لإسرائيل أية شرعية لاحتلالها أمام العالم. ولست أشك لحظة في أن زيارة المفتي للقدس سببت حرجاً شديداً لشيخ الأزهر وعلمائه الكرام.. ولهذا السبب جاء بيان مجمع البحوث الإسلامية عقب اجتماعه الطارئ أمس ليؤكد رفض الأزهر الكامل لزيارة القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي.. وخرجت مظاهرات لطلبة وطالبات الأزهر تعبر عن رفضهم لزيارة المفتي.. وقال مستشار شيخ الأزهر إن الزيارة جاءت في غير موضعها وفي غير توقيتها.. وصارت بمثابة طبق من فضة قدمه المفتي مجاناً لإسرائيل. سيقول الشيخ علي جمعة إن زيارته شخصية ولاتعبر عن رأي الأزهر وموقفه.. وسيقول إنه دخل القدس دون أن يختم جواز سفره بخاتم إسرائيل وأن القيادات الدينية والسياسية التابعة للسلطة الفلسطينية رحبت بالزيارة.. وهذا كله لايغير من الحقيقة شيئاً.. الحقيقة الناصعة التي تقول إن المفتي تجاوز الإجماع الوطني المصري وجرح مشاعر شعبه وكبرياء دولته! لماذا فعلت ذلك يافضيلة المفتي؟!.. هل من أجل دعوة لافتتاح مؤسسة آل البيت الأردنية؟!.. هل من أجل ركعتين في المسجد الأقصي الأسير؟! كثيرون غيري يطرحون أسئلة أصعب من ذلك لكنني لا أشك ولا أشكك.. ولا أتهم الرجل في دينه ووطنيته.. فقط أدعوه إلي أن يعالج الجرح الذي أحدثه باعتذار واضح وصريح لهذا الشعب المصدوم.