في ألمانيا تستطيع أن تنتقد الرب وتنتقد المسيح والسيدة العذراء وتمضي سالماً.. لكنك لن تسلم إذا تجرأت وانتقدت إسرائيل تلميحاً أو تصريحاً.. فإسرائيل هي "التابوه" الأكبر الذي لا يمكن أن يذكر بسوء.. والسبب في ذلك يعود إلي عقد الذنب التي تسيطر علي الألمان من جراء ما فعله هتلر باليهود أثناء الحرب العالمية الثانية.. والقصص الرهيبة التي تشاع عن المحارق الجماعية "الهولوكوست" التي كان يقتلهم فيها. وعقدة الذنب هذه تستغلها إسرائيل استغلالا كبيرا منذ زمن بعيد.. ونجحت في أن تحول هذا الاستغلال إلي عملية ابتزاز منظمة تحصل بمقتضاها من ألمانيا علي ما تريد من تعويضات مالية وأسلحة ودعم سياسي غير محدود. وبسبب عقدة الذنب استطاعت إسرائيل أن تسيطر علي مراكز صناعة القرار ورسم السياسات في ألمانيا بما يفوق قوة اللوبي اليهودي في أمريكا.. ومن ثم لا تستطيع شخصية مشهورة توجيه نقد لإسرائيل دون أن تتعرض للقصف الشديد. وهذا بالضبط ما حدث مع الروائي الألماني جونتر جراس الحائز علي جائزة نوبل في الأدب عام 1999 الذي فاجأ الألمان والعالم أجمع بقصيدة نثر بعنوان "ما ينبغي أن يقال" يهاجم فيها إسرائيل التي تمتلك ترسانة من الأسلحة النووية وتريد أن تضرب إيران لمجرد الشك في أنها تمتلك سلاحا نوويا.. وأدان بلاده "ألمانيا" التي قدمت إلي إسرائيل غواصة نووية متطورة يمكن أن تشارك في الجريمة الإسرائيلية الوشيكة.. كما أدان الصمت الغربي إزاء الكارثة التي ستصنعها إسرائيل. في هذه القصيدة التي نشرتها ثلاث صحف أوروبية في وقت واحد يشير جراس "84 عاما" إلي أن إسرائيل المالكة للسلاح النووي تهدد السلام الدولي الهش أصلاً.. مؤكداً تضامنه مع دولة إسرائيل بسبب مسئولية ألمانيا النازية عن المحرقة ضد اليهود وملمحاً بذلك إلي بعض أسباب صمته الطويل.. ثم انتقد سياسة بلاده القائمة علي تسليح إسرائيل وتوريد غواصات إضافية إليها بما يجعل من ألمانيا شريكاً في المسئولية عن أية حرب مدمرة قد تندلع في المنطقة. وفور نشر القصيدة بدأ الهجوم الكاسح علي الأديب العالمي حيث اتهمه البعض ب "العداء للسامية" والبعض الآخر ب "السذاجة السياسية" أو العجز عن التحليل الصحيح.. أما الذين دافعوا عنه فأقصي ما استطاعوا أن يقولوه إنه أديب كبير ومن حقه أن يقول ما يراه صحيحاً. ومعروف أن ألمانيا يحكمها الآن الحزب الديمقراطي المسيحي الذي يحتفظ بعلاقات وثيقة مع إسرائيل.. وكذلك رئيسة الحكومة انجيلا ميركل ترتبط ارتباطا وثيقا مع قادة إسرائيل.. ولذلك جاء رد المتحدث باسم الحزب والمتحدث باسم ميركل علي القصيدة يحمل تعريضا بجراس فيقول إنه أديب كبير لكنه عندما يتحدث في السياسة يجد صعوبات كبيرة ويحيد عن طريق الصواب وقد ارتكب هذه المرة خطأ كبيرا. أما إسرائيل فقد جن جنونها بسبب قصيدة جراس.. وشنت قوي اليمين الديني والقومي الضالعة في حكومة بنيامين نتنياهو هجمات ضارية ضد الرجل وقررت حظر زيارته لإسرائيل. وكان جراس قد اعترف في عام 2006 بسر أخفاه لمدة ستين عاماً.. فقد أقر بأنه عمل أثناء فترة تجنيده في جيش هتلر في فرقة النخبة التي شاركت علي نحو أو آخر في "الهولوكوست" وكان آنذاك صبياً في السادسة عشرة من عمره.. وأشار إلي أنه عندما أدرك مغزي فترة تجنيده لاحقته وصمة عار وشكلت سلوكه ككاتب ومواطن.. لكنه استطاع الآن التخلص نفسياً من هذا الشعور ومن عقدة الذنب. يقول جراس في قصيدته: لماذا أمنع نفسي من ذكر ذلك البلد بالاسم البلد الذي يمتلك منذ سنوات وفي سرية قدرات نووية تتزايد غير أنها خارج نطاق المراقبة لأنه لا يسمح لأحد بإجراء تفتيش الصمت العام عن هذا الفعل الإجرامي الذي يندرج تحته صمتي أشعر به مثل كذبة تدينني لهذا أقول ما ينبغي أن يقال لماذا صمت حتي الآن؟ لأني رأيت أن أصلي الذي التصقت به عيوب لا يمكن أن تمحي أبداً يمنعني من البوح بهذه الحقيقة وأن أواجه بها إسرائيل ان القوة النووية إسرائيل تهدد السلام العالمي الهش بطبيعته ولأننا أيضاً كألمان مدانون بما يكفي قد نصبح الموردين لجريمة متوقعة ولهذا فإننا شركاء في الذنب لكنني أعترف: لن أصمت بعد اليوم لأنني سئمت نفاق الغرب وفي آخر القصيدة يطالب جراس صراحة بمراقبة دائمة لقدرات إسرائيل النووية ومنشآت إيران حتي يعود السلام في هذه المنطقة التي يحتلها الجنون.. فهل هناك من يسمع له؟