فقدنا وفقدت مهنة الصحافة في مصر واحدا من أهم أعمدتها هو الأستاذ الكبير محسن محمد الذي انتقل إلي جوار ربه محملا بدعوات المحبين والعارفين لفضله أن يتغمده الله برحمته ويغفر ذنوبه ويتقبله بقبول حسن ويفسح له في قبره ويدخله فسيح جناته. والأستاذ محسن محمد صاحب مدرسة وصاحب بصمة ستظل علامة فريدة في الصحافة المصرية بصفة عامة.. وصحافة مؤسستنا علي وجه الخصوص.. كان أستاذ الجيل بحق.. بل أستاذ الأجيال.. فقد أدخل الصحافة الحديثة إلي الجمهورية عندما تولي رئاسة تحريرها عام 1975 وابتكر فيها فنونا وأبوابا لم يكن للصحافة المصرية سابق عهد بها.. ومن الجمهورية انتشرت هذه الفنون والابواب في الصحف الاخري.. واستمر يكتب بكل حرص ودأب في الجمهورية والمساء حتي وافته المنية. ولا يمكن أبدا لجيلي والجيل السابق علينا مباشرة أن ننسي ان الأستاذ محسن محمد من أكثر رؤساء التحرير الذين تحمسوا لخريجي الدفعات الأولي في كلية الاعلام.. فأتاح لهم فرصة التدريب والتعيين بسرعة.. وفتح أبواب الترقي لكل من توسم فيه الكفاءة والالتزام بصرف النظر عن اقدميته.. ومد يد المساعدة لكل من اجتهد وأبدع في عمله.. ووضع أسسا جديدة وصحيحة لإدارة العمل الصحفي في الجمهورية.. ومنها انتقلت هذه الأسس إلي باقي الاصدارات. كان الأستاذ محسن محمد نموذجا جديدا لرئيس التحرير في الجمهورية.. فلم يجلس في مكتبه وينعم بالهدوء ورفاهية المنصب كما كان يفعل السابقون عليه.. وانما كان طوال الوقت مهموما بالتطوير وتقديم الجديد للقراء.. كان يقرأ الصحف الاجنبية ليعرف اتجاهات التحديث فيها.. ولا يكاد يمضي يوم دون أن يأتي إلي الجريدة في الصباح ومعه مجموعة وريقات صغيرة فيها رؤوس موضوعات يقوم بتوزيعها علي المحررين لانجازها.. ويمضي يومه في متابعة تلك التكليفات. وكان من نتيجة هذا الإخلاص لمهنة الصحافة ان قفز توزيع الجمهورية علي يديه من 35 ألف نسخة الي 500 ألف نسخة في العدد اليومي و800 ألف نسخة في العدد الاسبوعي.. وهذه تجربة نجاح فريدة تدرس في كليات الاعلام ومعاهد الصحافة. لقد أخذ الاستاذ محسن محمد علي عاتقه أن يقدم لقاريء الجمهورية مادة متميزة ومختلفة عن المواد التقليدية التي تقدمها الصحف الأخري.. ومن ثم كان اهتمامه البالغ بما عرف بصحافة الخدمات.. فكان أول من نشر أسعار العملات الاجنبية في السوق السوداء عندما كان محظورا بيع وشراء العملات.. وكان أول من نشر أسماء وصور المواطنين العاديين في باب "اليوم عيد ميلادهم" وأول من نشر اسعار الخضروات والفاكهة في السوق.. وأول من نشر أخبار الترقيات والتعيينات للموظفين البسطاء.. وأول من نشر بابا للذين يبحثون عن العريس والعروسة.. وأول من خصص صفحة لشكاوي العاملين من تعسف روسائهم وشكاوي سكان المناطق الشعبية من انعدام الخدمات.. وأول من نشر صور السائقين والفراشين والكمسارية والزبالين في الصفحة الاولي.. وأول من فكر في توزيع الجمهورية ليلا فور طباعتها ليعود الموظف السهران الي بيته وهي في يده.. واستطاع بذلك ان يدخل بالجمهورية الي كل الشوارع والحواري وان يجعلها في كل الايادي لتكون صحيفة الشعب بحق. يقول في ذلك: نجحت في زيادة توزيع الجمهورية لأنني جعلتها أقرب الجرائد الي البسطاء.. ولم يكن هذا بالأمر الهين بالطبع..فقد واجه انتقادات شديدة من أنصار الثبات والتقليد.. ويكفي انه عندما أراد ان ينشر المانشيت علي خمسة اعمدة فقط وليس بعرض الصفحة الاولي بالكامل قوبل باعتراض وتهكم.. والآن معظم الصحف تنشر المانشيتات علي خمسة اعمدة اقتداء بتجربته الرائدة. وحكي لي رحمه الله أنه كان يحرص علي الاتصال بزملائه رؤساء تحرير الصحف يوميا فظن بعضهم انه يتصل ليعرف ما خفي عليه من أخبار أو يغش منهم العناوين والمانشيتات فوشوا به عند الرئيس السادات الذي عاتبه بفكاهة أو فاكهه بعتاب مما اضطره لكشف السر قائلا: اتصل بهم لأعرف ما ينشرون حتي ابتعد عنه تماما وابحث عن الجديد. وإلي جانب هذه المهارة الصحفية كان الاستاذ محسن محمد صاحب قلم فريد وصاحب فكر.. وقدم للمكتبة العربية أكثر من ثلاثين كتابا منها: دنيا الصحافة. سرقة ملك مصر. أصول الحكم. انهم يقتلون الادباء. من قتل حسن البنا. زوج مجرب. الشيطان. عندما تحكم المرأة. 5 أيام هزت مصر. الانسان حيوان تليفزيوني. أفندينا يبيع مصر. كانت أهم صفاته الصراحة والبساطة.. فعندما سئل عن علاقته بالسادات وكيف جاء به رئيسا للتحرير قال: ليست بيننا علاقة.. شاهدني في التليفزيون فعينني في رئاسة التحرير.. وعندما سئل عن سر عدم سفره مع السادات للقدس قال: لا أدعي البطولة.. كنت مدعوا للحج فاتصلت بالسادات تليفونيا وقلت هل أذهب ام أسافر معك فقال لا أستطيع ان أمنعك من الحج. وفي آخر حوار له مع الاخبار بعد سقوط مبارك قال بصراحته المعهودة كنا جبناء والنظام السابق اشتري اقلامنا.. ثم سأل نفسه: بالنسبة لي هل كان لدي شخصيا استعداد لأقول لمبارك رأيا مخالفا.. وأجاب: لا أظن ذلك. رحمك الله يا أستاذ الأساتذة.