تستحق مصر اليوم أن تحزن وتتشح بالسواد.. أن تبكي بدلاً من الدمع دماً. وتتلقي العزاء.. ليس فقط في شبابها الذين قتلوا غيلة. والذين سوف يقتلون.. وإنما فيما آلت إليه أحوالها من خراب واضطراب أيضاً.. مما يسر العدو ويبكي الصديق. كل ما قيل ويقال عن مؤامرات ومخططات الأعداء صدقت.. ووقعت فصولها أمام أعيننا. بينما أيادينا مغلولة لا نستطيع أن نمدها لإنقاذ الوطن وإنقاذ أنفسنا. وأسوأ ما في هذه المؤامرات والمخططات أنها تقع باسم الثورة وباسم الوطن لتركيع الثورة وتركيع الوطن.. ولا أحد حتي الآن لديه الشجاعة لكي يتصدي بجدية.. ويشير إلي الفاعل الذي نعرفه. لكننا لا نجرؤ علي أن ننطق باسمه.. مجرد أن ننطق باسمه. وهذه هي المحنة الحقيقية التي نعيشها.. خرجنا من ديكتاتورية مبارك ونظامه إلي ديكتاتورية أخري تمارس علينا باسم الثورة وباسم الثوار.. والثورة بريئة من هذا الهراء الذي يشوه وجهها الناصع. الثورة بلغت ذروتها وهي تحافظ علي نقائها وطابعها السلمي.. أكثر من مليون مواطن في ميدان التحرير يهتفون ويعتصمون. ولم ترتكب جريمة واحدة فيما بينهم علي مدي 18 يوماً.. تعرضوا للعدوان الغاشم لكنهم ضربوا المثل في حسن التنظيم وحفظ الأمن والتعاون فيما بينهم لأنهم ثوار حقيقيون. أما هؤلاء الذين يدعون الثورية اليوم من خلال الاعتداء علي الشباب وتخريب مؤسسات الدولة وحرق المنشآت العامة وقطع الطرق والسكك الحديدية وجر شكل الشرطة وقوات الجيش. بكل السبل لكي يقع مزيد من الضحايا ويسفك مزيد من الدماء. فهؤلاء الذين ينفذون مؤامرات الخارج بكل وعي وإدراك. ليسوا مغيبين.. وإنما هم ضالعون في المؤامرة لكي تتحول مصر إلي غابة.. ولا تستقر أحوالها.. وتصبح مرتعاً للشكوك وميداناً للمعارك الداخلية التي تستنزف قواها وثرواتها باستمرار.. فلا تقوم لها قائمة. يريدون اشتعال الحريق في البلد كله.. مرة بالفتنة الطائفية. ومرة باقتحام وزارة الداخلية.. وأخري باقتحام مجلس الوزراء أو مجلس الشعب.. ومرة بإغلاق ميدان التحرير أو كورنيش النيل. وأخري بإشعال النار في الملاعب وقتل المشجعين. المهم أن تظل مصر تغلي وتحترق.. وبحور الدم فيها تسيل كل يوم.. وجيشها يُهان. ومرافقها تعطل. ورجال أمنها تُدمر معنوياتهم ويتملكهم الخوف من اتخاذ أي إجراء لتطبيق القانون.. وتسقط هيبة القضاء.. وتسقط هيبة مجلس الشعب. إذا كانت مصر هي النموذج التاريخي للتعايش السلمي بين أتباع الأديان. فلابد أن يسقط هذا النموذج ويعلن فشله.. وإذا كانت مصر هي النموذج في الثورة علي الظلم والفساد والاستبداد بشكل سلمي لا يستدعي طائرات الناتو. فلابد أن يسقط هذا النموذج ويعلن فشله. مطلوب أن ترفع مصر يديها لأعلي وتهرول إلي السيد الأمريكي لتطلب منه أن يمدها بالمال والنصيحة. ويرشح لها من يرضي عنه ليتولي أمرها.. وإذا لم يحدث ذلك فسوف تزداد الفتن وتشتعل الصراعات ويتحول المصريون الطيبون إلي ذئاب هائجة.. يأكل فيها كل واحد لحم أخيه. ولو كان ميتاً. أليست هذه مصيبة المصائب؟!.. أليست هذه هي الكارثة الحقيقية التي تستدعي أن يبكي لها ونتلقي العزاء في أنفسنا.. وفي خيبتنا الثقيلة؟! ما أشبه حالنا بمن يسير إلي حتفه معصوب العينين. وهو يعرف أنه ساقط في هوة سحيقة.. بلد يضيع بأيدي أبنائه.. كأنما يساقون إلي الموت وهم ينظرون. علي مثل حالنا يكون البكاء والعزاء.. أو تكون الانتفاضة والصحوة.. صحوة الضمائر الميتة.. صحوة المحرضين والمخربين وجنرالات برامج "التوك شو" الذين يبثون السم في المسامع كل ليلة.. ثم يتباكون عندما تقع المصيبة.. يتباكون من طرف اللسان لا أكثر. اتقوا الله في بلدكم.. وفي أبنائكم.. عسي ربكم أن يرحمكم.