أضع يدي علي قلبي خوفاً مما قد يحدث اليوم في المظاهرات المليونية.. لم يكن لديّ هذا الخوف أثناء الثورة لأن القوي السياسية التي احتشدت في ميدان التحرير والميادين الأخري كانت "إيد واحدة".. وكان هدفها واحداً.. وهو "إسقاط النظام" وخلع الفرعون وحاشيته.. أما الآن فقد تعددت الأهداف.. وتناقضت أحيانا. الصراعات السياسية أصبحت علي أشدها.. والمناخ مناخ فتنة.. والإنفلات الأمني يفتح الباب لكل الاحتمالات والشكوك.. والمؤامرات يجري التخطيط لها علي قدم وساق جهاراً نهاراً.. والأموال جاهزة من كل حدب وصوب لمن لديه أدني استعداد للضرب والحرق وإثارة الفوضي وترويج الشائعات وبيع الضمير. الأحزاب والتيارات فقدت نقاءها الأول.. وانهمكت في حلبة المصارعة تستخدم كل ما لديها من أسلحة ومن فنون الحرب.. صار بعضها يكيد لبعض عن جهل أو عن سوء نية بلا أدني موضوعية أو مراعاة شرف المنافسة والخصومة السياسية.. وصار الفكر السائد علي المسرح السياسي الآن هو فكر المكايدة والمعاندة واللدد الذي يقود إلي التآمر.. حتي لو كانت نتيجة هذا الفكر كارثة علي الوطن وعلي الجميع. ليس هذا مناخ الحرية السياسية والديمقراطية الصحيحة.. ولا هو المناخ الذي يبعث علي الاطمئنان للحاضر والمستقبل.. فهل هذا هو مايراد لنا أن نصل إليه وقد وصلنا حتي نفقد الثقة في الثورة وفي أنفسنا ونصدق أننا شعب غير مؤهل وغير جاهز لممارسة الديمقراطية كما كان يردد أحمد نظيف وغيره من زبانية مبارك لتبرير فسادهم واستبدادهم؟! أشهد بأننا كنا حالمين أكثر من اللازم عندما تصورنا أن سقوط الفرعون سوف يسمح لهذا الشعب تلقائياً بأن يعمل وينتج ويخرج أفضل ما عنده.. ويمارس الديمقراطية وحرية الانتخابات مثل كل الشعوب المتحضرة.. فليس فينا جين التخلف.. ولا نحن مخلوقون للفساد والقهر كما يروج الفاسدون عنا.. نعم أشهد بأننا كنا حالمين أكثر من اللازم لأننا لم نضع في أذهاننا أن الثعالب والثعابين لن تسكت ولن تترك هذا الشعب يعيش حياته كما يريد.. وإنما ستلتف عليه.. وتدعي أنها النخبة الواعية المثقفة لتفرض وصايتها علي أبناء الوطن.. وتؤلب قوي الثورة علي بعضها البعض.. وتبث بينها العداوة والبغضاء وانعدام الثقة. ومما يؤسف له أن القوي الثورية تستجيب لهذه الثعالب والثعابين.. فتنطلق الي التناحر لآخر مدي.. وتغرق في الحروب الأهلية.. والنتيجة الأخيرة التي نشهدها هي عدم الاستقرار.. وحالة بائسة من الاستقطاب والتربص. وبدلاً من أن يخرج من صفوفنا حكماء وطنيون يعملون علي تقريب وجهات النظر ونزع فتيل الأزمات وتهدئة المنافسة والاستقطاب يخرج لاعبون علي الحبال.. يصبون الزيت علي النار لتزداد اشتعالا فلا تبقي ولاتذر.. وشيئا فشيئا يصبحون جزءاً من اللعبة القذرة. وفي ملتي واعتقادي أن الحرب الضروس الدائرة الآن بين السياسيين سببها الحقيقي يرجع إلي أنهم جميعا لايثقون في هذا الشعب ولا في قدرته علي حسن الاختيار.. ولذلك فإنهم ينصبون أنفسهم أوصياء علي الشعب القاصر. إنهم مثل المماليك الذين يتعاركون من أجل الفوز بالسلطة والكعكة والمال والنفوذ ويتجاهلون إرادة الشعب التي ستفصل في الأمر وتحدد من خلال صناديق الانتخابات من الذي يمثل هذا الشعب فعلاً ويحظي بثقته. البعض يتحدث كما لو أن المصريين بلهاء.. سوف يساقون بالعصا أو بالشعارات الأنانة الي صناديق الانتخابات ليبصموا علي اختيار من ضحك عليهم وسقاهم "حاجة صفرا".. والبعض الآخر يتحدث كما لو كان واثقاً مائة بالمائة من أنه قد فاز من الآن بأصوات المصريين المضمونة.. ولو كان لدي هؤلاء وهؤلاء ذرة من عقل لتعلموا الدرس من سقوط الفرعون. لو كان لديهم ذرة من ثقة في الشعب وقدرته علي الفرز والتمييز واختيار الأصلح لمناصب السلطة والحكم لما كانت هذه الحرب.. ولوضعت المنافسة السياسية في موضعها الصحيح باعتبارها منافسة بين البرامج لتقديم الأصلح والأفضل ليس أكثر. والمنافسة ليست حرباً.. ولا مؤامرات ودسائس.. ولذلك أعود وأقول إنني أضع يدي علي قلبي خوفاً من مليونية اليوم.. وأدعو الله ألا تنقلب حرباً بين القبائل المتناحرة.. وينتهي اليوم علي خير.