رغم أنه شغل مناصب كبيرة في ليبيا والعالم العربي خلال فترة حكم العقيد معمر القذافي إلا أنه ومنذ سنوات طويلة قرر أن ينأي بنفسه عن هذا النظام بعد ما أتاحت له ظروف الاقتراب من رأس هذا النظام وكواليسه التعرف علي طبيعته الاستبدادية الفاسدة مما دفعه للابتعاد وكذلك المعارضة الموضوعية حتي أصبح واحدا من أقطاب المعارضة الليبية في الخارج كما أنه لعب دورا هاما جدا في فعاليات ثورة 17 فبراير التي نجحت أخيرا وبالتحديد في 20 أكتوبر 2011 في الخلاص من الطاغية الذي كتم علي أنفاس الشعب الليبي الشقيق لمدة 42 سنة كاملة. اختزل خلالها التاريخ والجغرافيا في شخص وعدد قليل من أبنائه ومعاونيه الذين شكلوا عصابة إجرامية لنهب ثروات الشعب الليبي الشقيق وإذلاله من خلال الحكم بالحديد والنار. إنه الكاتب والسياسي والمفكر الليبي الوطني الدكتور إبراهيم قويدر الذي أجرينا معه هذا الحوار حول "ليبيا من الثورة إلي إعادة بناء الدولة" وتطرقنا فيه للعديد من الموضوعات الهامة التي تشغل أذهان الكثيرين من المهتمين بالشأن العربي أو الإنساني بشكل عام. عن المشهد الأخير مشهد قتل العقيد معمر القذافي الذي أثار بعض المخاوف بخصوص مستقبل الثورة وليبيا حيث اعتبره البعض تدشينا لعهد قد يطول من الانتقام والانتقام المضاد وانتهاك حقوق الإنسان أوضح أن الجميع بمن فيهم الثوار يقرون المعاني الجميلة لنبل الثورات وطهارتها ويحرصون علي ذلك ولكن أشار أيضا إلي أن ما حدث يعتبر أمرا طبيعيا في إطار الملابسات الخاصة بحجم ونوع الإجرام الذي مارسه القذافي ضد شعبه أثناء الثورة وقبلها. يقول د.إبراهيم إن عمليات القتل الجماعي والإبادة بالإضافة إلي عمليات التدمير الواسع وكافة الجرائم بما فيها الاغتصاب المنظم والممنهج للنساء والفتيات أوغر الصدور عليه إلي درجة جعلت من التعامل معه بحكمة مسألة غير متخيلة أصلا وبالتالي فإهانته والإساءة إليه قبل قتله وليس بعده تعتبر رد فعل طبيعي لما اقترفه من جرائم وإن كان البعض يري فيما حدث انتهاك لحقوق الإنسان. يضيف إن كافة الثورات في العالم صحبها مثل هذه الانتهاكات المفهومة والمبررة أو غير المفهومة ولا المبررة وراح ضحيتها الآلاف بل الملايين في بعض الأحيان فإذا اقتصر الأمر علي انتهاك حقوق شخص واحد أو عدد من الأشخاص الذين ساموا شعبهم سوء العذاب لمدة عقود كاملة فهذا شيء يحسب لهذه الثورة وهؤلاء الثوار. ويؤكد د.إبراهيم إن ما حدث قد يكون له وجه إيجابي حيث نفس عن مخزون الغضب المتركم لدي الشعب الليبي بشكل جماعي مرة واحدة وهذا أفضل من أن تتابع موجات هذا الغضب موجة بعد موجة فتدخل ليبيا في عهد من الانتقام والانتقام المضاد ويتساءل: لماذا يركز هؤلاء علي ما وصفوه بانتهاك الحقوق الإنسانية للقذافي وبعض زبانيته ويتناسون الحقوق الإنسانية لشعب كامل داسها هذا الطاغية وعصابته بالأقدام دون أن يطرف لهم رمش عين؟! قلت لمحاوري: ألم يكن من الأفضل الاكتفاء بالقبض عليه ومحاكمته؟ قال: بالطبع كان هذا أفضل ولكن ماذا عن قدرة البشر في ضبط مشاعرهم والتحكم فيها في مثل هذا الموقف أليس واردا أن من أهان القذافي أو أطلق عليه الرصاص واحد من هؤلاء الآلاف الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم وأخواتهم وبناتهم وزوجاتهم وأبناءهم في أي من المجازر والمذابح التي أقامها القذافي وزبانيته للشعب الليبي أثناء وبعد الثورة. علقت: المهم ألا يكون ذلك فاتحة لموجات عاتية من الانتقام بعيدا عن القانون. قال: أؤكد لك ولكل القراء أن هذا لن يكون إن شاء الله لأن الثوار أنفسهم وخاصة قادتهم واعون لذلك وهم ضد ذلك علي طول الخط وهو ما يتفق مع طبيعة الشعب الليبي المسالمة التي مكنت هذا الطاغية من البقاء في حكم 42 سنة كاملة فالانتقام والعنف ليس من طبيعة الشعب الليبي خصوصا والشعوب العربية عموما وسترون بأم أعينكم عودة هؤلاء الثوار إلي شئونهم الخاصة بعد أيام قلائل فما أحد منهم يرد سلطة أو ثروة وكلكم يعرف أن هذه الآلاف التي خرجت في الثورة والتي بدأت سلمية تماما من المدنيين الذين اضطروا لحمل السلاح دفاعا عن أنفسهم ضد العنف اللا آدمي الذي استخدمه القذافي وسوف يبقون مدنيين إلا نسبة قليلة منهم قد تري الانضمام للجيش الوطني أو أجهزة الأمن كحل لمشكلة البطالة التي فرضها النظام السابق. سألته: ألا تتفق معي أن وجود عدة ملايين من مختلف أنواع الأسلحة بين أيدي المواطنين الليبيين يمثل مشكلة حقيقية تواجه ليبيا في المستقبل؟ أجاب: اتفق معك طبعا ولكن من قال إن هذا الوضع سيستمر. إننا جادون لوضع حد عملي لهذه المشكلة إما عن طريق انضمام جانب من الثوار بأسلحتهم للجيش وأجهزة الأمن وإما عن طريق تسليم هذه الأسلحة للجهات المختصة وتعويض أصحابها ماليا لأنهم اشتروها في الغالب الأعم من أموالهم الخاصة وأما عن طريق حصر ما لدي المتبقين ممن يريدون الاحتفاظ بأسلحتهم وترخيصها لهم بشكل قانوني منضبط وكلي ثقة أن الثوار سيستجيبون لأي من هذه الحلول أنهم هم الذين طرحوها ويدفعون باتجاه سرعة تنفيذها. وعن المخاوف المتعلقة بصراع محتمل بين العشائر والمناطق المختلفة أوضح د.قويدر أن هناك خطأ شائعا بين المثقفين العرب وهو أن المجتمع الليبي مجتمع عشائري ومناطقي وهذا علي حد قوله أمر يحتاج لمراجعة فقد يكون صحيحا أن المجتمع الليبي مجتمع عشائري وربما مناطقي من الناحية الاجتماعية ولكنه ليس كذلك بالمرة من الناحية السياسية. يقول: إنه ليس من عشيرة أو قبيلة تعيش في منطقة ما أو مدينة ما وحدها حيث إن الاختلاط بين العشائر والقبائل في كل المناطق والمدن هو الأمر الطبيعي في ليبيا والدليل علي ذلك أن كتائب الثورة بل الكتائب التي حاربت في جانب القذافي كانت مختلطة تماما ولم يغلب علي أي منها أبناء عشيرة أو قبيلة ما واعتقد أن التسجيلات التي أذيعت عبر وسائل الإعلام للمشهد الأخير تؤكد ذلك بوضوح حيث سمعنا الثوار وهم يقولون للطاغية قبل مقتله: نحن ثوار طرابلس. نحن ثوار مصراتة. نحن ثوار بنغازي وهكذا الكل في واحد وستثبت الأيام صحة ما أقول وربما لا يعلم الكثيرون أن الشهيد الأول الذي قتلته كتائب القذافي من "القذاذفة" أنفسهم إن ما حدث في ليبيا ليس انتفاضة قبائل أو عشائر أو مناطق ولكن ثورة شعب كامل باستثناء هؤلاء الذين حاربوا في جانب القذافي من أقاربه والمنتفعين بحكمه والمرتزقة الذين استجلبهم من الخارج لقتل أبناء شعبه. وماذا عن تأثير الاختلافات والخلافات الأيديولوجية بين الثوار وداخل المجلس الانتقالي؟ ابتسم د.قويدر قائلا: إن الأغلبية العظمي من الشعب الليبي لا تعرف ولا تهتم بمثل هذه المصطلحات التي يلوكها المثقفون فهي بالنسبة لهم ترف لا مكان له وسط عشرات بل مئات المشكلات التي يواجهونها عمليا إن الشعب الليبي في أغلبيته مهتم الآن وفيما مضي وفي المستقبل بمسائل أخري أكثر أهمية مثل الغذاء والتعليم والصحة والبطالة وما شابه. أضاف أن الذين يطرحون مثل هذه الأطروحات هم "النخبة" وبخاصة من المعارضة التي اضطرت للفرار من نظام القذافي وعاشت بالخارج حيث لم يكن القذافي يسمح بأي معارضة باعتباره القائد الأوحد والزعيم الأوحد والمفكر الأوحد والمنظر الأوحد حتي في المجالات التخصصية البحتة فقد كان -من وجهة نظره- الطبيب الأوحد والمهندس الأوحد وهكذا. تزداد ابتسامة د.قويدر: يا أخي لقد شبع الشعب الليبي دون بقية شعوب الأرض من مثل هذه الأيديولوجيات لاعتبارات تتعلق بأحدية وواحدية القذافي نفسه فهو العروبي الأول والقومي الأول والأفريقي الأول والإسلامي الأول والعلماني الأول والليبرالي الأول والاشتراكي الأول وهكذا دواليك حتي تعدد كافة الأيديولوجيات المعروفة وربما غير المعروفة في العالم في الحاضر والماضي والمستقبل أيضا.