فقدت مصر يوم الاثنين الماضي الشيخ الجليل محمود عاشور أحد علمائنا الأعلام الذي تميز طوال حياته في مجال الدعوة الإسلامية بالحكمة والاعتدال.. كان صوتا رصينا للعقلانية والموعظة الحسنة.. وكان منهجه "سددوا وقاربوا" .. لم يكن صاخبا ولا زاعقا ولا متفحشا وإنما كان سمته الهدوء والاتزان.. تشهد علي ذلك أحاديثه التليفزيونية وخطبه التي كان يلقيها يوم الجمعة في مسجد مصطفي محمود بالمهندسين ودروسه الدينية.. فضلا عن جلساته الخاصة التي كان يبدو فيها ودودا غاية الود متواضعا غاية التواضع. عرفته يرحمه الله في أواخر ثمانينيات القرن الماضي عندما كان يشغل منصب وكيل وزارة شئون الأزهر.. وهو موقع مهم يسمح له بالتواصل المباشر مع رئيس الوزراء الذي هو بحكم الدستور وزير شئون الأزهر.. وقد أتاح له هذا المنصب قدرا من الحرية والاستقلالية في التواصل مع الصحافة والإعلام.. وجعل بينه وبين المؤسسة الدينية الرسمية خطوة فيما يتعلق بالرأي والاجتهاد.. وبدا هذا واضحا في اهتمامه بقضية التقريب بين المذاهب.. خاصة بين السنة والشيعة. كنت في ذلك الوقت أكتب عن الحرب العراقية الإيرانية بمنهج يختلف عما هو سائد.. وكان المناخ يسمح لنا ان نجاهر بأن صدام هو من أشعل الحرب وأن أخطر ماينتظر أمتنا أن تتحول هذه الحرب اللعينة إلي حرب مذهبية بين السنة والشيعة علي النحو الذي يروج له صدام..وأننا في حاجة إلي التعارف والوئام مع الشيعة بدلا من الحرب والصدام.. وأن بعض الاختلافات يجب ألا تتحول إلي خلافات وتكفير متبادل. كان هذا النهج غريبا ومحاصرا باتهامات التشيع والشعوبية ..لكن مكالمة تليفونية مفاجئة وبدون سابق معرفة من الشيخ عاشور كانت كفيلة برد الاعتبار.. فقد أثني علي ما أكتب مؤكدا أن الخلاف بين السنة والشيعة سياسي وفقهي وليس دينيا . بعد هذه المكالمة ذهبت للقائه ثم زرته مرات عديدة مستزيدا من علمه وأدبه وفضله..وتنامت علاقتنا بفضل صديقنا المشترك المرحوم الأستاذ محمود بسيوني رئيس تحرير المجلة الزراعية التي كانت تصدر عن دار التعاون.. خاصة بعدما تعرفنا علي الدور الاجتماعي الرائد الذي كانت تقوم به السيدة الفاضلة حرم الشيخ عاشور لصالح طالبات جامعة القاهرة المغتربات بحكم موقعها كمديرة للمدن الجامعية . كان دائما يفخر بأزهريته.. وبعد أن صار الشيخ عضوا بمجمع البحوث الإسلامية لم يتخل عن منهجه العقلاني وانتسابه إلي المدرسة العلمية للشيخ شلتوت.. وأشد ماكان يؤلمه تلك الفوضي التي شهدتها ساحة الفتوي وسمحت لكل من هب ودب أن يهاجم الأزهر ويتحدث في الدين بغير علم.. وقد تميز بآرائه القوية والجريئة في القضايا الخلافية والجدلية.. خاصة في قضيتي التقريب بين السنة والشيعة وتوثيق العلاقة بين مسلمي مصر ومسيحييها. اللهم اغفر له وارحمه ياأرحم الراحمين .