عرفت خالد محيي الدين بابتسامته التي لا تفارق وجهه وبمواقفه الشجاعة وقراراته الحازمة.. عرفناه في فترة الخمسينيات مدافعاً عن الديمقراطية.. مؤيداً للحق.. وفوق هذا وذاك كانت له مواقف إنسانية كثيرة.. فكانت جريدة المساء التي أصدرها تعبر عن مشاكل الناس ومتاعبهم.. وكان هذا رأيه في العمل الصحفي.. وقد تسببت كل هذه المواقف في تعرضه لمتاعب كثيرة.. بل وأدت به إلي نفيه خارج البلاد.. وتحمل الكثير والكثير في منفاه بعد أن ابتعد عنه الذين تقربوا منه عندما كان في مجلس قيادة الثورة وكان في السلطة ولكن هذه هي الدنيا. ومنذ سنوات وجهت "المساء" الدعوة إلي خالد محيي الدين لإجراء حوار معه قمت به والزميل أشرف أبوسيف والزميلة عزة يحيي.. حيث روي لنا الكثير من الحكايات حول الظروف التي صدرت فيها المساء.. وكيف ساهمت في تنظيم العدوان الثلاثي علي مصر سنة 56.. وقد بدت عليه السعادة عندما قدمنا له أول ملف للمساء يتضمن العدد الأول الصادر يوم السبت 6 أكتوبر 1956.. وتوقف عند العدد الصادر يوم أول نوفمبر وداعبته الذكريات حيث نظم الحملات الصحفية التي قادها الصحفيون الشباب في تغطيتهم أحداث الاعتداء الثلاثي علي مصر. وفجأة توقف خالد وقال.. هناك سؤال فكر فيه بعض الأصدقاء قبل أن أفكر أنا فيه لو نظرنا إلي صحف الأهرام والأخبار والجمهورية نجد أسماء الذين كانوا لهم السبق في إصدارها في واجهة الصفحة الأولي عدا المساء.. لماذا لا تكتبون اسمي.. حيث أنا الذي قمت بإصدارها.. وبصراحة لم نكن نعرف رداً لهذا السؤال.. وقلنا سنعرض الأمر علي المسئولين.. واستمر خالد محيي الدين يتصفح بعض الأعداد ويسترجع شريط ذكرياته كان يعلق علي بعضها ويصمت في البعض الآخر. يقول خالد.. الحقيقة أن اصدار المساء جاء صدفة.. فلم أكن أفكر في العمل الصحفي أو في إصدار جريدة أو حتي مجلة.. كان كل همي أن أعمل في العمل العام وأكون عضواً في مجلس الأمة.. أو أكتب بعض المقالات في أي إصدار صحفي والواقع الذي نعرفه أن خالد محيي الدين تعرض لمتاعب جمة لوقوفه بجانب زملاء له في السلاح.. ولم تكن مواقفه هذه تعجب جمال عبدالناصر أو أعضاء مجلس قيادة الثورة ونصحه البعض - وكان ذلك في شهر مارس 1954 أن يختفي عن الأعين خوفاً من أي أعمال قد يقوم بها بعض المعارضين وكان بعض أعداء فكرة الديمقراطية يريدن التخلص منه.. ولهذا ذهب خالد إلي وادي النطرون حيث كانت دراسات مشروع وادي النطرون تدخل في اختصاصه كمشرف علي المجلس القومي للإنتاج. المهم أن اراءه لم تعجب لا جمال عبدالناصر ولا أعضاء مجلس قيادة الثورة.. كان يريد أن تستمر الثورة ولكن في إطار ديمقراطي!! وكان رأي عبدالناصر إما الثورة أو الديمقراطية. ومرت الأيام وتعاقبت الأحداث.. وكتب خالد محيي الدين في كتابه "الآن اتكلم" أن جمال عبدالناصر استقبله ذات يوم وقال له: "اسمع يا خالد احنا أصدقاء لكن المصلحة العامة حاجة تانية وأنت عارف أنك "زي العسل" وسوف يتجمع حولك كل الذباب وتبقي مشكلة ونتصادم وأنا لا أحب أبداً أن أتصادم معك وأنا أفضل إنك تسافر إلي الخارج.. واقترح عليك أن تسافر إلي مكان هادئ وأصدر قراراً بأن يسافر مع بعثة من مجلس تنمية الإنتاج القومي إلي فرنسا وإيطاليا.. وبعد انتهاء الزيارة هم يعودون إلي مصر.. وأنت تبقي لتسافر بعد ذلك!! سويسرا.. وهكذا تم إبعاده عن مصر. ومن سويسرا أرسل طلباً يطلب منه العودة إلي مصر في زيارة ووافق جمال عبدالناصر واستقبله وسأله سؤالاً مباشراً "ناوي تعمل إيه يا خالد.. رد قائلاً: إنه يريد الانغماس في الحياة العامة وأرشح نفسي لعضوية مجلس الأمة. رد عبدالناصر هناك اقتراح آخر أن تعمل سفيراً في تشيكوسلوفاكيا فهي بلد مهمة جداً لمصر خاصة بالنسبة لصفقات السلاح.. ثم سكت عبدالناصر وعاد قائلاً وكأنه قد تذكر شيئاً مهماً: هناك اقتراح آخر بأن تصدر جريدة يسارية.. ولا تكون شيوعية وتصدر مسائية. وكان هذا الاقتراح مفاجئاً تماما لخالد.. وأضاف جمال عبدالناصر متسائلاً: كل البلاد العربية فيها صحف يسارية وعيب أن مصر لا يكون فيها جريدة يسارية وأنت أفضل من يصدر مثل هذه الجريدة ولكن لا تكون شيوعية مثل خالد بكداش "زعيم عراقي" أريد جريدة يسارية معقولة وأريدها مسائية لكن تكون محدودة وهكذا ولدت المساء.. وبدأ الاستعداد لإصدارها.. ومن الطبيعي أن تكون البداية إعداد هيكل العمل من مسئولين عن إدارة التحرير ومن الصحفيين ومن الكتاب.. ووقع الاختيار علي صاحب جريدة البلاغ محمد عبدالقادر حمزة ليكون أول مدير للتحرير.. والاستعانة ببعض كبار الكتاب مثل علي الراعي ولويس عوض ويحيي حقي وغيرهم وغيرهم ودخل الكاريكاتير في الصفحة الأولي من "المساء" وكانت خطوطه أشبه بمقالة سياسية أو اجتماعية.. وصنعت المساء لوناً جديداً من الصحافة الرياضية حتي أصبحت في وقت من الأوقات الجريدة الرياضية الأولي في الشرق الأوسط.. وبمجرد اندلاع أحداث الاعتداء الثلاثي علي مصر.. تم تجهيز وإعداد مجموعات من الصحفيين الشبان لكي يكونوا محررين عسكريين.. وتمتعت المساء في عهد خالد محيي الدين بنصيب كبير من الحرية في النشر ولكن مع الأسف.. لم تستمر هذه الحرية طويلاً إذ سرعان ما حدثت عدة اعتراضات علي ما تنشره المساء حتي صدر أمر بإعفاء خالد من مسئولية رئاسة التحرير في 20 مارس سنة 1959 ومع هذا الإعفاء تم تعيين رئيس تحرير جديد أجري تعديلات في سياسة الجريدة بنسبة 180 درجة. ويقول خالد إن الرئيس عبدالناصر كان يتابع الجريدة باستمرار ويمدح في بعض الأحيان ويتضايق في أحيان أخري خصوصاً بالنسبة للحكايات التي كانت المساء تنشرها عن عامة الناس تحت عنوان باب يسمي "يوميات شعب" وكثيراً ما قال هذا الباب يتضمن حكايات قاسية وتثير الشجون في أحيان أخري خصوصاً وأن غالبية الشعب لا تعيش في مآس ومشاكل.. هناك زهور متفتحة وشباب رائع وحكايات جميلة عن مواطنين يعملون بجد ولديهم أفكار رائعة. والحقيقة أنه علي الرغم من أن خالد محيي الدين لم يتول مسئولية المساء إلا عاماً وأقل من ستة أشهر إلا أنه صنع جريدة متفردة بالرأي ولها شكل مميز واستطاعت أن تقفز وتنمو وتعيش وتحل مشاكل الناس علي مدي سنوات عديدة.. كافحت المساء واستطاعت أن تصمد أمام محاولات البعض لإجهاضها واستطاعت ايضا أن تقف في مواجهة الأنواء الصعبة التي كثيراً ما تعرضت لها.. واستطاع خالد ايضا أن يجعل من المساء مدرسة تخرج فيها عدد كبير من الأسماء التي لمعت في مختلف الصحف والمجلات المصرية والعربية. والحق فإن خالد محيي الدين وهو الآن في دار الحق كان مواطناً رائعاً.. جمع بين حزم العسكرية ونصرة الحق والإيمان بالوطن وبالإنسانية التي لا حدود لها كان إنساناً في نشر القصص والحكايات الواقعية عن أصحاب المشاكل والمحتاجين كان إنساناً في مساعدة الكثيرين. كان عضواً في البرلمان المصري لمدد طويلة.. لم يدخله بالتصفيق أو بأي أسلوب آخر ولكن دخله بإجماع جماهيري ضخم من أهل بلده.. فقد صنع لهم الكثير.. رحمه الله فقد كان إنساناً وعسكرياً وصحفياً.