خطة تطوير التعليم التي أعلن عنها الدكتور طارق شوقي وزير التعليم مؤخراً أثارت بلبلة وتساؤلات تم الإجابة علي بعضها بينما لم يجب أحد علي الأسئلة الأخري. ومن الواضح أننا جميعاً متفقون علي أن التعليم والصحة هما أساسا التنمية في مصر وعمارها.. وأن منظومتي التعليم والصحة في حاجة إلي ثورة وقرارات جريئة وتنفيذ فوري.. ولكن عندما نبدأ في اتخاذ أي خطوة في هذا الاتجاه تكون الثورة المضادة أقوي وكأننا نحارب أنفسنا بأنفسنا وكأن بيننا من يريد أن تستمر هذه الحالة من التراجع التعليمي والصحي في حياة المصريين برغم أنها الاولي بالرعاية والاهتمام. قد يبدو كلامي وكأنه دفاع عن وزير التعليم والحقيقة أنني لا أستطيع القيام بهذا الدور وإن كان في حقه علينا أن نشيد به وأن نشد علي يديه لعدة أسباب. أولها: أن الرجل تصدي بقوة للمنظومة الفاشلة وأراد تصحيحها وبدأ بالفعل.. وتلك هي أزمتنا الحقيقية أننا نعرف الخطأ والصواب ولا نبدأ في المواجهة. والأمر الثاني: أنه أعد دراسات حقيقية وجادة للتطوير حتي وإن كان هناك آراء تعليمية أو تربوية مخالفة أو تختلف مع الرؤية الجديدة إلا أننا أصبحنا نمتلك رؤية متكاملة للتطوير وهي ليست جامدة أو نصوصاً مقدسة بل يمكن تعديلها وتصويبها بما يتفق مع صالح العملية التعليمية ذاتها. الأمر الثالث: أن الرجل لم يدع أنه صاحب نظرية التطوير بل أعلن بصراحة ووضوح أن هناك لجاناً وخبراء بعضهم يعيشون خارج مصر شاركوا في خطة التطوير والنهوض بالعملية التعليمية. وأخيراً: فإن الوزير قام بالرد علي كافة التساؤلات المطروحة.. وإن كانت هناك تساؤلات أخري مازالت في حاجة إلي رد. الخطة لم تتجاهل أن اللغة الإنجليزية هي وسيلة التخاطب العلمية في البحوث والدراسات العلمية في العالم كله.. وبالتالي فإن الادعاء بأن التطوير ليس إلا مجرد تعريب للعلوم والرياضيات فالرجل أوضح بشكل حاسم أن الهدف هو اللغة العربية والاهتمام بها واعتقد أن هذا الهدف مهم جداً بل إننا كنا نعاني من هذه الأزمة بشكل حقيقي لأن الأطفال والتلاميذ أصبح اهتمامهم الأول تعلم الإنجليزية علي حساب اللغة العربية.. وبالتالي فإن عودة الاهتمام باللغة العربية هو في حد ذاته هدف رائع ومهم أما حكاية التعريب فليست صحيحة كما فهمت من تفسيرات الوزير لأنه أكد علي أن تلاميذ الابتدائي بل ومرحلة ما قبل الابتدائي سيدرسون المصطلحات العلمية والرياضية بالانجليزية ثم سيتم فصل العلوم والرياضيات عن الباقة الأساسية ليتم تدريسها باللغة الاجنبية ولكن بعد أن تكون اللغة العربية قد تم تثبيتها بشكل جاد وقوي في عقول الأبناء فإذا كانت خطة التطوير مهتمة بهذه الجوانب فإنها تصبح متكاملة في هذا الاتجاه خاصة أنها ستكون في الأساس تحت أهداف واضحة ذكرها الوزير في خطته وهي: تعلم لتكون.. وتعلم لتعرف.. وتعلم للعمل.. وتعلم للتعايش مع الآخر. إذا نجحنا فعلاً في تطبيق هذه الأهداف وترجمتها علي أرض الواقع فإننا بذلك أيا كانت السلبيات الأخري نكون قد حققنا هدفاً رائعاً وعدنا بالتعليم في مصر إلي عهده السابق كرائد في المنطقة بعد أن تدهور بشكل غير عادي وأصبح - ونحن الرواد - في المؤخرة. الهدف الأول: تعلم لتكون في اعتقادي أنه الهدف الأهم والأبرز لأن الواقع الذي عشناه منذ سنوات أن التعليم لا يحقق المطلوب منه لكي يصنع شخصية التلميذ والطالب بل بالعكس أثر سلباً علي شخصيته وحالته النفسية بسبب ما يحتويه من أسلوب الحفظ والتلقين وعدم الفهم والاستيعاب وطرق الامتحان والدروس الخصوصية التي تملأ عقول التلاميذ بالسؤال والإجابة النموذجية حفظاً.. لا فهماً!! كذلك غياب الأنشطة وغياب الثقافة الفكرية والمكتبات وغياب إعمال العقل والفكر وتكوين الرؤية.. أعاد التعليم إلي منطقة "الكتاتيب". أما الهدف الثالث تعلم لتعمل.. فإنه يعيدنا إلي عهد محمد علي عندما كان يعلم الشباب من أجل الوظيفة التي يريدها سواء في الجيش أو غيره ولذلك كانت العقلية المصرية والصورة النمطية لدي الناس هي أن الوظيفة مرتبطة بالعمل خاصة في مرحلة ما بعد ثورة يوليو 1952 التي منحت وظائف حكومية وقطاع عام للملايين دون دراسة وظيفية وأصبحت الوظيفة العامة حقاً مكتسباً لمن ينهي تعليمه من خلال القوي العاملة.. ثم بعد الخصخصة لم تهتم الدولة بالوظائف في القطاع الخاص وتأمين العامل.. وبالتالي أصبح لدينا ملايين العاطلين.. الذين زادوا بشكل كبير بعد ثورة 25 يناير 2011 وإغلاق عدد كبير من المصانع والأنشطة وتعطيل السياحة. لذلك فإن الهدف "تعلم لتعمل" يجب أن يكون هدفاً استراتيجياً للدولة وليس للتعليم فقط أي أن تكون هناك لجنة في مجلس الوزراء تخطط وتضع القواعد والأسس في هذا المجال بما فيها التعليم نفسه..!! أما الهدف الرابع وهي التعايش مع الآخر فأتمني ألا يكون هو السبب الرئيسي في إلغاء مادة التربية الدينية وأن يحل محلها مادة الأخلاق.. لأن تلك هي الأزمة الحقيقية بأن نتناسي أن مادة الدين هي نفسها مادة الأخلاق.. لأن إلغاء مادة "الدين" لا مبرر له ولا منطق بل يتعارض مع خطة التطوير نفسها والتي تعتمد أساساً علي الاهتمام باللغة العربية وإعادتها إلي مكانتها الطبيعية.. وأنا هنا لا أتحدث عن التربية الدينية الإسلامية فقط بل والمسيحية ايضا وكلاهما والحمد لله تهتمان بالأخلاق الكريمة وترفع من شأنها. الهدف الثاني تركته متعمداً وهو: "تعلم لتعرف".. لأن هناك اشكالية مهمة وهي المدارس الدولية ومدارس اللغات.. صحيح أنه بالنسبة والتناسب فهي قليلة العدد حيث يوجد في مصر حوالي 47 ألف مدرسة حكومية من مجموع المدارس في مصر والتي تصل إلي حوالي 55 ألف مدرسة.. والباقي مدارس خاصة ولغات ودولية.. مما سيؤكد حالة الانفصام في شخصية التعليم وسنلغي فكرة أن التعليم المميز للجميع.. بل سيكون هناك الصفوة في المدارس الدولية.. والمميزون في مدارس اللغات.. والغلابة في مدارس الحكومة مما نخلق حالة من الطبقية.. وتلك الإشكالية مطلوب حلها بشكل واضح وصريح خاصة أن بعض المدارس الدولية تتعامل مع المجتمع المصري وكأنها من كوكب آخر ولا تطبق قوانين الدولة والأدهي أن مصاريفها تعمق حالة الانفصال الطبقي عن أرض الواقع الوطني. المناهج في المدارس الدولية ومدارس اللغات هل ستخضع لإشراف وزارة التعليم؟ والمصاريف هل ستخضع لإشراف الوزارة؟ ناهيك عن ارتباط هذه المدارس بمناهج الوطن وتنمية الولاء والارتباط بترابه!! شعار الوزارة في خطة التطوير هي التعليم للجميع بدون تمييز.. وبجودة عالية في إطار نظام مؤسسي كفء وعادل ومستديم فهل ستحقق الوزارة هذا الهدف علي أرض الواقع هذا هو السؤال المهم الذي اعتقد جازماً أن خطة الوزارة تستهدفه ولكن الاصطدام بالواقع سيكون شديداً والأهم من ذلك كله ألا تكون هذه الخطة مرتبطة باسم الوزير فإذا تغير جاءنا وزير آخر برؤية أخري يهدم الخطة الأولي من أساسها وتلك قضية أخري!!