في عام 1970 كتبت علي هذه الصفحة تحديداً في "المساء" موضوعاً بعنوان "كل أفلام العالم في بيتك" وذلك بعد عودتي من رحلة إلي سوق الفيلم الدولي في مدينة ميلانو بإيطاليا. حينئذ عرضت اليابان لأول مرة آخر مخترعاتها الإلكترونية "جهاز الفيديو" الذي بواسطته تستطيع مشاهدة فيلمك المفضل داخل المنزل من خلال الشريط "الفيدو كاسيت". وكان الاختراع شيئاً رائعاً. ومع مرور الأيام تكونت لدي مكتبة أفلام "فيديو كاسيت". والأهم أصبح هناك ما يسمي "بنوادي الفيديو" التي انتشرت انتشاراً واسعاً في كل الأحياء. كونها توفر للمشاهد إمكانية تأجير شريط الفيديو لأي فيلم يرغب في مشاهدته مقابل اشتراك زهيد. وأتذكر في الستينيات عندما ظهر التليفزيون وكان اختراعاً أبهر العالم أجمع وأصبح له مكان رئيسي في كل بيت مصري. وقد تربت عليه أجيال ودخل قائمة اهتمامات المصريين اليومية ليحل محل الراديو الذي كان لا غني عنه. فلا أحد ينكر أن التكنولوجيا من المجالات القادرة علي تغيير عادات الناس وتوسيع مداركهم وزيادة خبراتهم والأهم الترفيه عنهم وتزويدهم بغذاء روحي وجداني عاطفي وفكري. ثورة الاتصالات ومع بداية التسعينيات بدأ في الظهور اختراع أحدث ثورة هائلة في العالم كله بدأت ملامحه مع ظهور ما يسمي ب "الدش" أو الطبق الفضائي الذي انتشر انتشاراً لافتاً للعيان فوق أسطح البنايات في المدن ثم بدأ يزحف تدريجياً إلي الأقاليم ثم القري والنجوع. في البداية كان ثمن "الدش" كبيراً وصل إلي "20" ألف جنيه ومن ثم ظل لفترة قاصراً علي القادرين ولكن مع بداية انطلاق النايل سات عام 2000 ظل سعر الريسيفر وطبق الاستقبال "الدش" بعيداً عن تناول المواطن الفقير الذي كان يلجأ إلي المقاهي ليشاهد الأفلام والمباريات حتي استطاع بذكائه الفطري أن يخترع "الدش" المشترك والوصلات المسروقة التي تتيح لمتوسطي الدخل مشاهدة ما يراه القادرين. في بيتنا دش نعرض هذه الفترة في التسعينيات نفسها قمت أنا والزميلة الصديقة ابتسام الأنصاري التي كانت تعمل في الإذاعة بأعداد ثلاثين حلقة إذاعية بعنوان "في بيتنا دش" ثم أعدنا الحلقات نفسها لقناة ال "إيه آر تي" art حيث إلتقينا حينئذ ب "30" شخصية كبيرة في مجال الصحافة والإعلام والجامعة ومنهم علي سبيل المثال لا الحصر: إبراهيم نافع. أنيس منصور. وسعيد سنبل والدكتور خليل صابات "أستاذ الإعلام" والدكتورة جيهان رشتي والدكتورة فرخندة حسن.. وسعد الدين وهبة والدكتور أحمد مرسي... إلخ. وكان الهدف الرئيسي من هذه الحلقات هو رصد التأثيرات المختلفة علي الصعيد الثقافي والاجتماعي والسياسي والفني واللغوي لكل هذه المواد المتميزة من كل صوب بما تحتويه من مضامين ورؤي واختلاف ثقافات وتأثيرها في الأسرة والأفراد والمجتمع... إلخ. الفضائيات والقنوات الأرضية مع ظهور "الدش" سرقت الفضائيات أعين المشاهدين بعيداً عن القنوات الأرضية المحلية التي اندثر تأثيرها تقريباً وأصبحت في خبر كان مع امتداد الرحلة الخطيرة للإعلام والانتقال بين محطاتها المختلفة من الراديو. إلي الترانستورز إلي التليفزيون الأرضي ثم الفضائيات وحتي الأونلاين واليوتيوب. ولكن ما بالك وقد قفزت إلي المقدمة الآن شركة أمريكية عملاقة مهمتها بث الترفيه المرئي بكل روافده من المسلسلات والأفلام والبلاي ستيشن والكرتون وألعاب الفيديو وحسب الطلب واستطاعت الانتشار عالمياً حتي وصلت إلينا هنا في مصر وأصبح لديها في فترة وجيزة الآلاف المشتركين وأقصد شركة net felix التي وصل بثها إلي كافة دول العالم تقريباً بما فيها الدول العربية عدا سوريا والصين وبلاد القرم وكوريا الشمالية. "وعدم وصولها إلي هذه الدول لا يخلو من دلالة". هذه الشركة تقدم خدمة الترفيه حسب الطلب سواء كانت أفلاماً أو مسلسلات من كل صنف ولكل الأعمار ومع الترجمة العربية أيضاً. وكأنك تشاهد علي جهازك الخاص "تليفزيون أو محمول أو كمبيوتر" ما تتطلع إلي الفرجة عليه بشرط أن تكون مشتركاً في الإنترنت وهنا يمكنك أن تختار ما نود مشاهدته وسوف نعرض عليك المواد بجودة فائقة وبدون إعلانات تجارية وفي المقابل اشتراك شهري يتراوح بين 8 و12 دولاراً حسب مستوي الجودة والسرعة. و"نتفيلكس" تتفوق بخدمة ترفيهية أشمل وأقوي وأكثر تأثيراً بالتأكيد من كل المنصات الإعلامية التي مرت في السنوات الماضية.. فالمتفرج الآن يجلس أمام تليفزيون الإنترنت الذي يوفر له التجارب الفنية في مجالات الترفيه المتنوعة حيث تمتلك الشركة كل المنتجات الحديثة من الأفلام والمسلسلات وألعاب الفيديو والرسوم والمواد الموجهة للأطفال وأفلام الكرتون. إرادة سياسية وشعبية سألتني محررة فنية عن رأيي في وجود هذه الشركة التي بدأت تغزو الجمهور المصري والعربي فلم يكن أمامي غير استعراض ما جري بعد أن صارت السماوات مفتوحة ولا يملك أحد أن يوقف التطور أو يحد من تأثيره. ولكن ما نملكه وإن كان صعباً ويحتاج إلي إرادة سياسية وشعبية قوية وجادة توجه للاهتمام المفرط بالإعلام المصري ودوره التوعوي ويحقن المتفرج من خلال النوافذ الإعلامية بمضادات حيوية نافذة أولاً من خلال الدراما التليفزيونية والأفلام السينمائية وقبلهما التعليم ثم التعليم وجوهر ما نقدمه للأجيال الصغيرة من مناهج ومحتوي فإذا كان من الصعب وربما من المستحيل "وقف" الغزو الثقافي متعدد الوجوه فعلي الأقل أن يضع المسئولون نصب أعينهم مواجهة ما يسمي ب "صناعة الترفيه" وهي في حقيقة الأمر صناعة للوجدان والعقل والانتماء الوطني لجموع المشاهدين ولأن هذه "المنصات الإعلامية" مثل منصات الصواريخ عابرة القارات. وتأثيرها المدمر. وإن كان بطيئاً إلا أنه مؤكد خصوصاً لو تركنا الأجيال تستقبل فقط من الطرف الأقوي والأكثر جاذبية الواسع الإمكانيات كل المحتويات الموضوعية التي تبثها هذه الأعمال الفنية الشيقة والجذابة والمؤثرة والتي لا تخلو بالضرورة من التوجهات أو الأجندات الخاصة. فإذا كان الجمهور علي مواقع التواصل الاجتماعي يدرك بوعي ما يبثه الإعلام الوافد والمحلي بعض الوجوه البارزة فيه من سموم مضللة تخدم القوي المناوئة التي تستخدمهم والتي لا توفر جهداً من أجل وقف مسيرة المجتمع وإحباط شبابه وتثبيط هممهم إذن فقد سلمنا نسبياً من تأثيرهم الخطير وعلينا ألا نتوقف عن تقديم البرامج الكاشفة عن محتوي الأعمال التي تضع السم في العسل وتحليلها وفضح النوايا التي تتستر وراء بعض الأعمال الفنية والبرامج والمسلسلات وقد رصدنا منها "عينات" من شأنها أن تخلق صورة ذهنية لمجتمع مريض ومشلول بشخصيات غارقة في المخدر أوالملذات أو الانحرافات الأخلاقية. لا تملك الدولة أياً كانت أن تسد النوافذ الفضائية والإلكترونية داخل البيوت أو أن تحد من حرية الفرد في اختيار ما يرفه عنه ولا تملك أي قوة مهما كانت مصادرة أمزجة الناس أو تيار من الجمهور المستهلك للمنتجات الترفيهية التي توفرها شركة بحجم "نتفيلكس" التي دخلت أيضاً ميدان الإنتاج والتوزيع وقد شاهدنا ضمن إنتاجها فيلم "الميدان" التسجيلي للمخرجة الأمريكية المصرية جيهان بخيم الذي يقدم النسخة "الأمريكية" لثورة 25 يناير 2011 بوجهة النظر الداعمة لرؤية الرئيس "أوباما" وهيلاري كلينتون ومعهم "النخبة" وإعلاميو المصالحة في مصر.. إنه "الميدان" الجامع لكل الفصائل ولكل من لهم الحق في ثورة 25 يناير ومن ثم الاشتراك في حكم مصر "والإخوان في مقدمتهم". إن الدولة المصرية لا توفر أدني جهد في تسليح القوات المسلحة وتمكينها من الدفاع عن حدود مصر وأمنها ضد الأعداء المتربصين بها ولكن الحدود الجغرافية والسياسية تمتد إلي العقل وإلي الضمير والوجدان الجمعي والمفروض حمايته وتحصينه وهذا لن يتحقق إلا بقوة ناعمة مؤثرة ووطنية بمقدورها صد الغزو القادم من المنصات الإعلامية الوافدة عبر الفضاء والمخترقة للحدود بما فيها العقل الجمعي.