منذ حصل الروائي والناقد محمد برادة علي درجة الدكتوراة في الأدب من جامعة السوربون. تعددت اسهاماته- علي مستوي الوطن العربي- في مجالات الاستاذية بالجامعات. والابداع الروائي والقصصي. والنقد. والترجمة. بحيث تحققت له مكانة تضعه في الصف الأول بين مثقفي الوطن العربي. قلنا: هل تعاني القصة القصيرة أزمة؟ قال: لاشك أن القصة القصيرة تعاني الإعراض. نتيجة الاهتمام الزائد بالرواية. وأيضا بسبب تناقص القراء. وتراجع النقد المحرض والمغري. بمتابعة اللحظات السردية التي يبدعها قاصون عرب في دأب واجتهاد.. لكن هذه الاعراض قد تكون مؤقتاً مادام عشاق القصة ومبدعوها لا يزالون علي قيد الحياة. متشبثين بخصوصية جنس القصة وتميزها الشكلي والدلالي. كما هو معروف. لا مناص من أن يخوض كل جنس تعبيري غمار التحولات. ويرتاد سيرورة التجدد. ويواجه تجربة التنافس مع أجناس أدبية أخري. قلنا: هل تنعكس هذه الأزمة علي العلاقة بين المبدع والمتلقي؟ قال: علاقة المبدعين بالمتلقين في الحقل الأدبي العربي تكتسي أهمية كبيرة. وتحتاج إلي كثير من تشخيص وتحليل للخروج من وضعية اللامبالاة والتهميش. إلي مستوي العلاقة الفاعلة. الحامية لظهر الكاتب. والعاملة علي جعل الابداع يأخذ حقه في الانتشار علي مدي الرقعة العربية. ذات اللغة المشتركة والهموم والاسئلة المستقبلية المتقاربة. قلنا: هل السبب في الأزمة هو قلة المبدعين؟ قال: لا تشكو الثقافة العربية من قلة المبدعين. لأن أجيالاً شابة تتوالد. وتتنامي بانتظام علي امتداد الوطن العربي. سواء في الأقطار المركزية أو أقطار المحيط. معربة عن استيعاب أبعاد الكتابة ورهاناتها. محتفية بالتحقق الفني والجمالي. مستوحية للقضايا والاسئلة المطروحة في الساحة العربية. وفي دهاليز ذوات الأفراد المتطلعين إلي التحرر. واستكمال شروط الوجود الانساني. قلنا: إذا اعتبرنا أن هناك أزمة في التلقي.. ما مظاهر هذه الأزمة؟ قال: المظهر الأول لأزمة التلقي هو مجال الأدب يتكشف من محدودية بيع الانتاج. وعجز المبدعين عن ان يتعيشوا من أقلامهم في فضاء يشمل أكثر من 300 مليون نسمة. ولهذا المظهر المادي انعاكاسات علي استقلالية الكتاب. واستمرارها في العطاء.. إلا أن المظهر الآخر الأكثر سلبية. يتمثل في كون اختلال التلقي يحرم مجتمعاتنا من استثمار الخطاب الأدبي في تحريك ومساءلة بقية الخطابات المؤطرة للمجتمع. والمشكلة للمتخيل الاجتماعي ورموزه.. والمظهر الثالث المعطل للتلقي في مجال الأدب. غياب معاهد وتخصصات جامعية لدراسة سوسيولوجيا الأدب في جوانبها الملموسة والاحصائية. لمعرفة عدد القراء ومستوياتهم. وتحديد أذواقهم. ومقاييس اختيارهم للاجناس الأدبية. والتعرف إلي نماذج من تأويلاتهم للنصوص التي يقرأونها. ومدي تفاعلهم مع الأشكال والدلالات. وهذا النقص في اختبار حقل القراءة والتلقي يجعل الناشرين والمبدعين ينتجون وعلي عيونهم غشاوة. فيحرم الانتاج من التوسع والتسويق الملائم. ويحكم علي المبدع بالانفصال عن جمهوره الحقيقي. قلنا: بالمناسبة. ما رأيك في تعدد الاجتهادات حول نشأة القصة والرواية العربية؟ قال: بالنسبة لرحلة القصة العربية في حقل الابداع العربي الحديث. نتذكر أنها انطلقت منذ أواخر القرن التاسع عشر. مصاحبة لظهور الصحافة وقيامها بالدور الذي كانت تلعبه في الغرب من حيث الاخبار والتوجيه وتقديم النصوص الممتعة المتفاعلة مع مسار الحاضر.. وفي هذا السياق. ارتبطت الصحافة ببداية مشروع النهضة العربية. وكانت القصة القصيرة وسيلة إلي التعليم والتربية والتنوير قبل أن تتنامي وتنضج لتلتقط التحولات الناجمة عن الاستعمار والمثاقفة واتساع المدن.. ومن خلال منبر الصحافة اليومية والمجالات. استطاعت القصة أن تحتل مكانة لدي القراء. وأن تواكب ظهور الحساسية واللغة ومنظومات التفكير. ومنذ مطلع القرن العشرين برزت أسماء قاصين تمكنوا من استيعاب شكل القصة وتجلياتها في الانتاج العالمي. وسرعان ما استنبتوها في الحقل العربي بتفاعل مع المحيط. وخصوصية المرحلة التاريخية. قلنا: هل نستطيع أن نتعرف إلي معالم الرحلة من خلال أهم رموزها؟ قال: أسماء الرواد البارزين أكثر من أن تحصي في مختلف الاقطار العربية.. ويمكن أن نذكر من بينهم محمود طاهر لاشين ومحمود تيمور والمازني ويحيي حقي في مصر. وذو النون أيوب وغائب طعمه في العراق. وعبدالسلام العجيلي وسعيد حورانية في سوريا. وجبران وميخائيل نعيمة في لبنان. وخليفة التليسي في ليبيا. وعبدالمجيد هدوقة والطاهر وطار في الجزائر. وعبدالمجيد بنجلون وعبدالكريم غلاب في المغرب.. فهؤلاء- علي سبيل المثال لا الحصر- مهدوا الطريق أمام القصة القصيرة. لتتحقيق- منذ منتصف القرن الماضي- قفزة بعيدة المدي. إذ أصبحت مرصداً لتجديد الكتابة والرؤية. واقتناص اللحظات الجوهرية في سيرورة التحولات الاجتماعية. بل يمكن القول ان الأدب العربي أصبح يتوفر علي قاصين يمتلكون صفة العالمية. ويتميزون بأسلوبهم وشكلهم القصصي. مثل يوسف إدريس وزكريا تامر وإدوار الخراط.. وهذا التراث القصصي المتراكم علي امتداد مائة سنة. هو ما يغري اليوم أجيالاً من الكتاب الشباب ليرتادوا مسالك هذا الجنس التعبيري الواعر. لالتقاط لحظات التحول السريع. ومحاولة تمثل الماضي والانخراط في المستقبل. قاصون شباب يتخذون من القصة وسيلة للتنفيس عن أزمة متعددة الوجوه. تحاصرهم في علاقتهم بالمجتمع. وتخلخل كيانهم كلما تساءلوا عن حريتهم ومصيرهم داخل مجتمعات فاقدة البوصلة. غائصة في أزمنة الرصاص وأحاييل الماضي.. هذه الأجيال الشابة من القاصات والقاصين يكتبون متحررين من قيود طالما أثقلت كاهل الرواد. ومن تلاهم. هم لا ينشغلون بالتساؤل عما اذا كانت القصة قد وجدت في التراث العربي. ولا يصغون إلي من جعلوا أسواراً حول القصة الحديثة داخل تعريفات مدرسية. تحدد الطول. وتلح علي صوغ الحبكة صياغة متصاعدة من البداية إلي انفراج العقدة. لا يتقيدون بشيء من ذلك. لأن القصة بالنسبة اليهم تستجيب لحالات المشاعر والوجدان. ولما تمليه الحياة. ويتلاءم مع ثقافتهم المعاصرة المنفتحة علي كل ألوان التعبير البصرية والسمعية واللغوية.