إذا كان التاريخ هو جسد الحضارة. فإن التراث روحها. ولأن حضارتنا تحفل بالتاريخ المتصل الحلقات. وبالتراث. منذ أشرق فجر الضمير علي الأرض المصرية. فمن البديهي أن نجد في كل ما ينتسب إلي التاريخ والتراث. ما يصل الحاضر بما كان. ونستشرف من خلاله صورة المستقبل. نحن لا نمل التباهي بحضارتنا المتمثلة في تاريخ يمتد إلي ما قبل تكوين ضفتي الواديِ. وتكوين الدلتا. وفي التراث المكتوب. منذ النقش علي الحجر. إلي الكتابة علي البردي. حتي أيامنا الحالية.. لكننا للأسف نهمل كنوز التاريخ والتراث. حتي الموروث الذي ابتلعته الحداثة. لم تعد له مكانته في مفردات حياتنا. المشكلة الأشد إلحاحا هي ذلك الجانب المهم من تراثنا. الذي تضمه متاحف ومكتبات العالم. فيضطر دارسونا للسفر إلي تلك المواضع للتقليب والتفتيش. بحثا عما يعينهم في دراسة التاريخ المصري والعربي في تعاقب عصوره. "قضايا أدبية" تطرح مبادرة للبحث عن التراث الغائب في مدن العالم. من الصعب أن يفرغ الباحثون لتحقيق ملايين الأوراق والمخطوطات. لكننا نستطيع في ضوء التقنيات الحديثة أن نأتي بذلك التراث مصورا إلي جامعاتنا وهيئاتنا العلمية. تستوعب التراث العظيم. وتحققه. وتنشره. بحيث لا يقتصر الأمر علي أفراد من الباحثين. يقضون سنوات في قراءة وتحقيق وثيقة أو مخطوط. بينما تغيب الفرصة عمن تعوزهم الوسائل لذلك. وكما يقول د. أحمد السيد عوضين فإن القانون الدولي العام يبيح أن يتم تصوير نسخ من أي مستند طالما أنه لا يرتبط بالأسرار أو الأمن القومي للدولة التي تحتفظ بذلك المستند. والمستنداتت التي نطلب تصويرها هي جزء من تاريخنا. وقد وصلت إلي مكتبات ومتاحف العالم في ظروف الاحتلال التي سطت حتي علي شواهد حضارتنا كما نري في ميدان الكونكورد بباريس والمتحف البريطاني ورأس الجملة نفرتيتي في متحف برلين. يؤكد د. شريف عابدين علي أهمية المشروع. فالدول التي تضم مكتباتها مثل هذا التراث العربي الإسلامي الضخم. لا يعنيها إلا أن تمتلك كنزا ثمينا من المخطوطات والمجلدات والمراسلات والوثائث. لكن هذا التراث يمثل بالنسبة لنا ضرورة. حتي نتعرف إلي ما في تراثنا الغاذب. فسنجد فيه بالتأكيد ما يصلنا بوقائع تاريخية وتراثية مهمة. تكشف عن دور علمائنا ومفكرينا في اثراء الفكر العالمي. وتلقي الضوء أيضا علي مدي تأثر الغرب بكل هذه المنجزات الفكرية. نحن في حاجة إلي مشروع قومي ضخم. أتصور أنه يضم كافة الجهود. ليس في مصر فقط. بل في الوطن العربي. ثمة مركز لتحقيق التراث في مكتبة الإسكندرية. يقوم عليه فريق من العلماء والمحققين. ويعمل بكفاءة. حيث يعقد المؤتمرات الدورية. ويستضيف علماء من كافة أنحاء العالم. المفروض أن يبدأ هذا المشروع بما لدينا من مخزون ثقافي مخطوط. في دار الكتب بباب الخلق. ومخازنها. وأذكر أن الحملة الفرنسية اكتشفت العديد من الآثار وأهمها كما نعلم حجر رشيد. وكذلك البرديات. وحينما انهزمت الحملة رفض قادة بونابرت أن يتركوا تلك البرديات. وفضلوا أن يؤسروا علي أن يتركوا للإنجليز تلك الاكتشافات. وحينما أخذ الانجليز حجر رشيد. سافر شامبليون من فرنسا إلي انجلترا ليحقق ذلك الأثر. فقد اعتبره بردية. نحن أصحاب ذلك التراث العريق. وعلينا أن نبحث عنه في المكتبات العامة والخاصة وإذا لم نكن قادرين علي استرداده فإن علينا أن نحققه. ونقدمه للعالم كله. فلا يظل حبيس الأرفف والمخازن. هذا مشروع ثقافي كبير. أتمني أن يتم. وخاصة أننا في حاجة إلي ذلك التراث الإنساني العظيم. ونحن أولي من غيرنا بتقديمه إلي العالم. وفي وجهة نظر مقابلة يري د. أحمد شمس الدين الحجاجي ان الفكرة جيدة جدا. لكن الحماسة غائبة. بحيث يفرض السؤال نفسه: هل الظروف الآن تسمح بهذا المشروع؟ في ألمانيا. لديهم كل الكثير من المخطوطات الأدب الشعبي. الأمر نفسه في فرنسا والصين. وفي المغرب العربي: تونس والجزائر وموريتانيا والمغرب لديهم مخطوطات هائلة. هناك كتب ضاعت من المكتبة العربية. لكن مخطوطاتها موجودة في المغرب العربي. كل ذلك يحتاج إلي التنقيب والكشف والتحقيق. لدينا في مصر أيضا ما هو مودع في دار الكتب. بالاضافة إلي مقتنيات المكتبات الخاصة. كل هذا يحتاج فريقا كبيرا. يتكون من كل قطر عربي علي أن تتولي قيادته المركزية هيئة مركزية عربية. الجامعة العربية مثلا. ويتم الأمر بداية من ارسال فريق العمل إلي الأماكن التي يوجد فيها تراث إسلامي وعربي وغيره. وحصر ذلك كله. ثم العمل وفق خطة علمية منهجية وإن كان من المهم ان يتكون فريق عمل لديه الحماسة والدربة والقدرة علي العمل في ظروف شاقة. يقترح د. عادل وديع فلسطين ان نحصر التقنيات الموجودة في المتاحف أو المكتبات سواء كانت برديات أم مخطوطات قبطية أو إسلامية. علي هؤلاء العلماء أن يصنفوا المخطوطات قبل اعداد كوادر علمية من مرممين وباحثين ومحققين في اللغة المصرية القديمة أو اللغة القبطية. هذه خطوة مهمة جدا لأنها من خلال مشروع قومي واضح المعالم يخدم الحركة السياحية والأثرية في مصر. ثم في خطوة تالية من الممكن شراء المقتنيات التي يقتنيها اشخاص في البلدان الأوروبية. وقد رأيت ذلك في ألمانيا. وبعد أن يتم المشروع. فإن علينا البحث عن مكان لوضع تلك التقارير. وما تم اكتشافه وتحقيقه في مكتبة الإسكندرية. علينا أن نفيد مما عثر عليه الباحثون. سواء كانوا عربا أم أوروبيين. هذا مشروع مهم. لا يقل أهمية عن مشروعات يعلن عنها لتنشيط السياحة. مثل مشروع إحياء رحلة أسرة المسيح إلي مصر. والإفادة منه كبرنامج للسياحة يوضع علي الخريطة السياحية لمصر في العالم. اعتقد أن هذه الأفكار يجب أن تدرس. ليبدأ العمل بها. ومن واقع خبرة د. أيمن فؤاد سيد كأستاذ للتاريخ. وأتيح له السفر إلي الكثير من مدن العالم للإطلاع علي ما تضمه متاحفها ومكتباتها. فهو يري أن كل ما هو موجود مفهرس ومحقق. وله كتالوجات.. الغرب يقدم مثل تلك الأمور. سواء كانت المقتنيات ثقافية من خزف أو معادن أو أوراق جنيزة أو برديات أو مخطوطات. من يريد شيئا يتاح له أن يطلع عليه. لكن أن تسترد تلك الأشياء فهذا شبه مستحيل. ثمة قانون الملكية الفكرية الصادر من اليونسكو عام ..1971 كل ما قبل ذلك القانون لا يمكن استرداده. كما لا يمكن استرداد أي ممتلكات شخصية. ما هو مسجل في متحف لا يمكن استرجاعه إلا عن طريق العلاقات الثنائية مع الجهة التي تملك. ولكن من الممكن أيضا أن يقدم مستنسخات. أي اتفاق ودي. ولعلي أنبه إلي أن ما خرج من آثار العراق لا يعرض في متحف. لأنه لو عرض فسيأخذه العراق. ويعود إليه في اليوم التالي. فمن الصعب إذن أن تتم الأمور إلا من تحت الترابيزة! أما ما هو موجود خارج القاهرة. في المنصورة أو شبين الكوم أو دمياط وغيرها من المدن. فذلك يحتاج إلي تعريف وفهرسة وقاعدة بيانات وكتالوج. وللأسف فإن قانون الملكية الفكرية يشوبه عوار. لأن من يملك مخطوطا أو غيره سيصادر. بينما تطرح تلك المخطوطات في دول الغرب علي الجهات المعنية. وعلي تلك الجهات أن تدفع المقابل. وزارة الثقافة المصرية ليس لديها ميزانية لشراء المقتنيات التراثية. ومن ثم فهي تلجأ إلي مصادرة ما تصل إليه. ويضطر الأفراد بالتالي إلي اخفاء ما لديهم من كنوز. العادة أننا نقرأ عن أوراق لفيكتور هوجو أو بلزاك أوزوا وغيرهم تباع في مزادات علنية عن طريق قاعات متخصصة. هذا ليس لدينا. وعندما كنت في دار الكتب زرت المكتبة الفرنسية وسألت: كيف يتم الاقتناء؟ قيل لي انه يتم حضور ممثل عن الدار هذه المزادات. ويقترح السعر الأعلي. لأن دار الكتب لديها ميزانية لذلك.. وكما أري. فإن لدينا من يشتري من المستشرقين. ولديه ايصالات تثبت ذلك. ولكن يتم مصادرتها. وحتي تودع تلك المقتنيات في دار الكتب فلابد من تعديل القانون. حتي يمكن معرفة ما لدي الناس حتي يمكن فهرسته. وترقيمه. وتقديمه. وبعد. فإن "قضايا أدبية" تثير مشكلة التراث الغائب: كيف نسترده بصورة صحيح. فنسترد جانبا مهما من تاريخنا الحضاري.. والمسئولية تخص العلماء والمحققين الذين يملكون الوعي والاحساس بالمسئولية ما يستعيدون به تراثنا من مدن العالم. ويقدمون تراثنا إلي العالم. لكن المسئولية كذلك تخص وزاراتنا المعنية. وفي مقدمتها الثقافة والآثار والجامعات وغيرها من المؤسسات الحكومية والأهلية. هل نبدأ؟