عندما أوقفت مكتبة مصر نشر كتب كبار الأدباء الذين حققوا لها مكانتها المتفردة بين دور النشر. تصور الكثيرون أن التوقف نتيجة طبيعية بعد رحيل سعيد السحار مؤسس المكتبة. والتي خصها بإبداعات توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وعبدالحميد السحار ويوسف السباعي ويوسف إدريس وغيرهم أراد الورثة مكسباً مضاعفاً فقصروا اصداراتهم علي كتب التراث.. لا ورثة. وتلقي رواجاً هائلاً في البلدان الناطقة بالعربية. عكس الكتب الحديثة التي تقلصت مبيعاتها بصورة لافتة.. حتي كتب نجيب محفوظ التي كانت تطبع المكتبة منها كل عام عشرة آلاف نسخة. صارت ثلاثة آلاف نسخة تحتاج لتوزيعها إلي سنوات عدة. تفهم المثقفون وجهة نظر ورثة السحار. وإن لم يقتنعوا. باعتبار ان الاسم الذي حققه سعيد السحار للمكتبة يساوي ملايين الجنيهات. وبعد أن شاركت الدار المصرية اللبنانية في معرض الكتاب الأخير بإصدارات وافرة ومهمة. فاجأت الحياة الثقافية بإعلان توقفها عن النشر لأسباب تتصل باقتصاديات صناعة الكتب. وبين توقف النشر في مكتبة مصر والمصرية اللبنانية توقف الكثير من دور النشر. وظهرت دور أخري. بعضها يكتفي بإهداء نسخ إلي المؤلف بدلاً من المكافأة. وبعضها يتقاضي أجر الطباعة مضاعفاً في ابتزاز يسكت عنه اتحاد الناشرين واتحاد الكتاب وهيئة الكتاب. وغيرها من المؤسسات التي يعد الكتاب من صميم مسئولياتها. ويثور السؤال عن مستقبل الكتاب الورقي. هل يمكن استعادة عافيته. أو أن مصيره كما يتنبأ البعض إلي الزوال؟ يشير د. أبو الحسن سلام إلي أنه يتعامل منذ 2005 مع دار نشر. لا يحصل منها علي أي مقابل . وإذا قدم لي مبلغاً في نهاية السنة فإنه يتمثل في مكافأة زهيدة لا تساوي معناها. يضيف د. أبو الحسن: أعرف أن الناشر يكسب لأنه يذهب إلي جميع المعارض في الوطن العربي. حيث يباع الكتاب بأضعاف ثمنه. لذلك فقد طلبت منه أي عدد من كتبي لطلابي. وهوا ما حدث مع تلميذي د. جمال ياقوت الذي وافق علي النشر بلا أجر. والاكتفاء بنسخ من الكتاب. وهو ما فعلته كذلك تلميذتي سعدية خليفة.. ولعلي أوافق علي الاقتراح بقيام مجلس أمناء. يعني بنشر الكتب من خلال الاكتتاب أو المساهمات. وأدعو جميع الزملاء الكتاب إلي المشاركة فيه. سواء كانوا من الأكاديميين. أو كبار الأدباء والمفكرين. وثمة طريقتان في رأي د. كمال رحيم لحل الإشكالية. الأولي أن يكون النشر إليكترونياً. فنحن نقدم الرواية مخطوطة. وهنا لا نحتاج إلي طباعة وورق وتكاليف نشر. كما أن هذه الوسيلة تحقق انتشاراً واسعاً للكتاب. خاصة لاننا في عصر انتشار الإنترنت. وهناك جيل لا يتعامل مع المطبوعة الورقية. ويفضل النشر الإلكتروني. وبالمناسبة. فإن النشر الإلكتروني مزدهر الآن. ولي فيه تجربة. فقد نشرت لي الجامعة الأمريكية ثلاثة كتب مترجمة. وفي نهاية العام يتم الحساب عن طريق البيع أو القراءة الإلكترونية. أما الحل الثاني فهو أن نعمل نحن الأدباء شركة مساهمة. يساهم فيها الأديب بألف جنيه. أو خمسمائة جنيه. وتتكون جماعة من المؤسسين لديهم قدرة مالية. يحصلون بها علي عدد كبير من الأسهم. ويكون النشر في مجالات السرد الفني والشعر والنقد. علي أن يختار لها مدير من خارج الوسط الأدبي. أي مدير إداري يتولي إدارة المشروع. تلك الدار يجب ألا تنشر إلا ما يستحق النشر فعلاً. فليس ضرورياً لمن يدفع مبلغاً أن ينشر. أما عدد النسخ المطبوعة فمن الأفضل ألا تزيد علي خمسمائة نسخة. إذا نفدت أعيد طبع الكتاب. وأذكر ان لجنة النشر للجامعيين كانت حلاً في فترة الحرب العالمية وما بعدها في القرن الماضي. القادر الآن هو الذي ينشر لنفسه. حتي لا يطول انتظاره في النشر العام بالقطاع الحكومي. إقرار بعدم الدفع! ويري الروائي مصطفي نصر ان تزايد دور النشر في السنوات الأخيرة يشي بأرباحها. والحق أن 99% من دور النشر في الإسكندرية بخاصة تكسب. لأنها تحصل علي ما تسميه تكاليف الطبع. ولا تدفع للكاتب أي مقابل. "يعني الربح مضمون" من قبل أن يصدر الكتاب الذي لا يحصل منه الكاتب إلا علي نسخ قليلة. وبصراحة فإن دار الهلال في بعض الفترات كانت تتقاضي من الأدباء مبالغ كبيرة مقابل النشر في سلاسلها. الأمر نفسه في مطبوعات دار المعارف. يدفع الكاتب بدلاً من أن يحصل علي المقابل. لذلك لم أستغرب شرط الدار المصرية اللبنانية عند بدء تعاقدنا أن أكتب إقراراً بأني لم أدفع!. بلغنا للأسف مرحلة تعسة. والغريب اننا نطالب بضرائب. هل ندفع ضرائب بدلاً من الناشر الذي يستولي علي فلوسنا؟!. أضاف: لقد تخلفت الدولة عن القيام بدورها في دعم الكتاب. بحيث أتوقع في وقت قريب جداً أن تبيع هيئة قصور الثقافة كتبها بأسعار مرتفعة. وفي تقدير د. عادل وديع فلسطين ان بداية المشكلة عندما اشترطت هيئة الكتاب ألا ينشر الكاتب أكثر من كتاب واحد في السنة. فقد اتجه الكتاب إلي دور النشر الأخري. قد تقتنع دور النشر الكبري علي الطبع والتوزيع في نطاق ضيق جداً. نظراً لارتفاع أسعار الورق والأحبار والطباعة. وتوازي ذلك مع ظهور دور النشر العشوائية التي تتاجر بعقول الكتاب. أذكر أن الأديب الكبير يوسف الشاروني اضطر في نهايات عمره أن يطبع مؤلفاته في مكتبة دفع لها. ولم يأخذ. أعطي عصارة مخه لبائع كتب. معني ذلك ان الإبداع صار بلا أي نفع مادي ولو لمجرد تعويض تكاليف الطباعة علي الكمبيوتر. وفي حالات كثيرة. فإن الناشر يحصل من الكاتب علي مبالغ طائلة. وحين يصدر الكتاب يعطيه نسخاً يتولي الكاتب توزيعها. وفي حالات أخري. يولد الكتاب ميتاً. فلا يري النور. ولا يباع ولا يقرأ. ولا يشعر به النقاد مثلما حدث مع كتب الراحل محمد الحديدي. وكما أري فإن مطابع الهيئة العامة للكتاب هي مطابع ذات كفاءة عالية جداً. يمكنها أن تنشر كماً هائلاً من الكتب. وتستطيع الهيئة نشر الكتب اللائقة للنشر. شرط المساهمة المالية من قبل الكاتب في عملية الطباعة. ولعل المطلوب من هيئات وزارة الثقافة أن تلغي قرار عدم جواز نشر أكثر من كتاب واحد في السنة. خاصة لو ان المبدع له مكانة يستحق بها أن ينشر أكثر من كتاب. وهناك هيئات ثقافية يجد الشخص صعوبة كاملة للنشر فيها. مثل هيئة قصور الثقافة. والمجلس الأعلي للثقافة. وأكاديمية الفنون. ودار الكتب. وهي مؤسسات حكومية. والنشر فيها صعب. وهذه تجربة شخصية مررت بها. وبديهياً والرأي لطارق سعد أن يسعي الناشرون إلي الكسب. ومن حقهم أن يسألوا عن امكانيات تخفيض أسعار الخامات والطباعة. وأن ينبهوا إلي أخطار جديدة. مثل القرصنة والتزييف. فالكتاب ثمنه 40 جنيهاً. ويباع علي الرصيف بعشرين جنيهاً. أما التحجج بأن الدولة لا تدعم دور النشر. أو تخفف عنها فإن دور النشر تقدم سلعة ثقافية. لا لأنهم تجار. بل لأنهم مسئولون عن الثقافة. الكتاب سلعة ثقافية وليس تجارة. والناشرون مسئولون عن جزء من المشكلة. لأنهم يصرون علي أسماء بعينها. ويربطون نشاطهم أحياناً بمعونة خارجية. أو بمشروع القراءة للجميع. أو يحصلون علي دعم من جهات عربية أو أجنبية. والسعر المناسب مهم جداً لتفريخ أزمة الكتاب. وما تصدره دور النشر من مطبوعات فخمة. تستطيع أن تصدره في مصر بخامات أقل جودة. وبسعر أقل. حتي يقبل عليها القارئ. يبقي أن الدولة يجب أن تشارك في حل الأزمة بتخفيف الضرائب علي الأحبار والورق والخامات والخدمات. حتي يسهل علي دور النشر تقديم السلعة بسعر معقول. وكجزء من الحل. فإن علي وزارة التربية والتعليم والجامعات والمعاهد العليا أن تزود مكتباتها بنسب معقولة من اصدارات دور النشر.