لست أدري هل أصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بانفصام الشخصية؟. وهل هو ذلك الشخص الذي رأيناه خلال لقائه مع الرئيس السيسي بواشنطن منذ أيام يتسم بالحكمة وحسن تقدير الأمور وأكثر دراية بالأوضاع السياسية والعسكرية في منطقة الشرق الأوسط من أسلافه؟. وهل نسي ما دار بينه وبين الرئيس السيسي من نقاشات وتأكيدات الرئيس السيسي له علي أن الحفاظ علي مؤسسات الدولة الوطنية أحد أهم أسباب نجاح الحرب علي الإرهاب. وأن إسقاط هذه المؤسسات في أي دولة يكون أفضل دعم للإرهاب والإرهابيين ومن يدعمونهم؟. وهل فعلاً أن الرئيس ترامب من ذلك النوع من الرؤساء الذين يبدون ردود أفعال ويتخذون قرارات سريعة مهما كانت صعوبة هذه القرارات دون أخذ الوقت الكافي لدراستها؟. ثم ألم يتعلم ترامب الدرس من أسلافه فيما يتعلق بضرب وغزو العراق ثم ضرب ليبيا حتي انهارت مؤسسات هاتين الدولتين ولم يعد يصلح معها أية محاولات للإصلاح؟ ما رأيناه فجر أمس من اطلاق المدمرتين الأمريكيتين "يو إس إس روس" و"يو إس إس بورتر" 59 صاروخ توماهوك علي قاعدة الشعيرات العسكرية السورية يعبر عن فترة قادمة تشوبها العشوائية في الأفعال وردود الأفعال. ولولا ضبط النفس الذي مارسته القوات الروسية الموجودة في سوريا وعدم اسقاطها لهذه الصواريخ حتي لا تشتعل حرب نووية بالمنطقة لحدث ما لا تحمد عقباه. قبل إطلاق الصواريخ الأمريكية نفت كل الأطراف في سوريا مسئوليتها عن إطلاق القنابل الكيماوية علي منطقة خان شيخون بريف إدلب. فقد نفت القوات السورية القيام بهذا العمل. كما نفت المعارضة المسلحة أيضاً مسئوليتها وطالبت بتحقيق دولي. وبالطبع نفي الجانب الأمريكي أن تكون مقاتلاته نفذتها. أما الجانب الروسي فقد أكد أن طائرات الجيش السوري أطلقت صواريخ علي مخزن أسلحة يخص تنظيم داعش أو المعارضة المسلحة السورية وقد كان من بين الأسلحة الموجودة بهذا المخزن سلاح كيماوي انتشرت غازاته بعد تدمير المخزن وحدث ما حدث. الولاياتالمتحدة لم تصدق ذلك. ولم تنتظر اجراء تحقيق لمعرفة المتسبب في هذه الجريمة الشنعاء التي راح ضحيتها العشرات منهم عدد كبير من الأطفال. ولم تنتظر صدور قرار من مجلس الأمن الدولي ولا حتي إدانة. ولم تنتظر الحصول علي موافقة الكونجرس الأمريكي قبل الاقدام علي هذا العمل وفقاً للقانون الأمريكي الذي يتيح الفرصة لتوجيه ضربة عسكرية خارج حدود البلاد في حالة وجود خطر مباشر علي الولاياتالمتحدة ولكن بموافقة الكونجرس. ترامب خالف القانون الدولي والقانون الأمريكي وأقدم علي عمل عسكري منفرد. تماماً كما فعل سلفه جورج بوش الابن في العراق عام 2003. ثم أعاد للأذهان ما حدث وقتها أيضاً عندما بث البيت الأبيض أمس صورة لترامب وفريق عمله أثناء توجيه الضربة لسوريا. ردود الأفعال تباينت بعد الضربة الأمريكية. فقد قال وزير الخارجية الفرنسي جان مارك أيرولت: "يجب ألا نتحرك من أنفسنا. بحجة أن الرئيس الأمريكي ربما غلي الدم في عروقه. ونصبح متأهبين للحرب". واعتبر رئيس الوزراء الروسي ديميتري ميدفيدف أن الضربة الأمريكية علي سوريا وضعت واشنطن علي شفا الاشتباك مع الجيش الروسي. ثم أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية اللواء إيجور كوناشينكوف أن روسيا أوقفت العمل بمذكرة التفاهم مع الولاياتالمتحدة بشأن سلامة الطيران فوق سوريا بداية من منتصف الليلة الماضية. وقد شن تنظيم داعش الإرهابي هجوماً واسع النطاق علي مواقع للجيش السوري فور الضربة الأمريكية وحقق مكاسب علي الأرض لم يكن ليحققها لولا الضربة الأمريكية. ومن أسرع ردود الأفعال علي الضربة الأمريكية كما قالت صحيفة الجارديان البريطانية ما صدر عن الوفد المرافق للرئيس الصيني شي جين بينج الذي يزور الولاياتالمتحدة حالياً فقد انسحب الوفد من منتجع ترامب في الساعة الثامنة و51 دقيقة مساءً "بالتوقيت الأمريكي". أي بعد 6 دقائق فقط من بدء اطلاق صواريخ "توماهوك" في ضرب أهدافها بالأراضي السورية. كما تداولت وسائل الإعلام الروسية. صوراً لمجموعة من السفن الحربية الروسية تعود بأقصي سرعتها الي شواطئ سوريا عقب الضربة الأمريكية ومنها الفرقاطة الروسية "الأميرال جريجوروفيتش" التي عادت من البحر الأسود الي البحر المتوسط عبر مضيق البوسفور. وهي محملة بصواريخ "كاليبر" المجنحة. وأوضحت وسائل الإعلام الروسية أن البحرية أرسلت السفن في حالة الاستعداد القتالي الكامل الي شواطئ سوريا بعد الهجوم الصاروخي الأمريكي علي القاعدة الجوية. أما السيناتور الأمريكي توماس ميسي فقد أثار حفيظة مذيعة شبكة سي إن إن عندما قال لها: "تعرفين أن حرباً تجري هناك. ويعتقد أن الغارة الجوية استهدفت مستودع أسلحة. ولا أعرف كيف تم اطلاق المادة السامة. هل بسبب الغاز المخزن هناك أم لا. لكنها فرضية جديرة بالتصديق ظاهرياً. لكن هذا التفسير لم يخفف من اندهاش المذيعة التي استفسرت من السيناتور لماذا كان يثق بتقييمات العسكريين الروس وتصريحات الأسد بقدر أكبر مما تؤمن به واشنطن. فرد عليها قائلاً: "لا أعتقد أن شن الأسد هجوماً كيميائياً علي شعبه سيخدم تحقيق أهدافه". أعتقد أن الرئيس الأمريكي ترامب لا يقصد "قصقصة" ريش الجيش السوري ولا القضاء علي الرئيس السوري بشار الأسد كما تحلم إسرائيل وتركيا. ولكنه فقط يقدم نفسه للعالم. ويستعرض قوته لإخافة خصمه اللدود روسيا. حتي لا تظن أنها تلعب بمفردها في الملعب السوري. ولكن هذا الاستعراض قد لا تكون عواقبه حميدة. خاصة إذا حاول تكرار هذا الفعل نفسه مرة أخري. لأنه وقتها لا يتوقع رد فعل الدب الروسي.