هل يوجد مهرجان ميزانيته سبعة ملايين جنيه. نصفها يُنفَق علي المرتبات والمكافآت؟!! السؤال يلفت النظر. ويثير تساؤلات عديدة. إذا جاء علي لسان شخصية فنية مرموقة. ومسئول مهم علي الساحة الفنية.. ولا أعرف مدي دقة الأرقام التي ذكرها الفنان الضالع في كثير من النشاطات الفنية.. ولكنني علي يقين أن النسبة والتناسب بين ما ينفق علي فعاليات المهرجان وعلي الموظفين المنظمين له من الممكن أن تكون صحيحة بالنظر إلي الأرقام التي يتناقلها نفر من المقربين عما يتقاضاه البعض. وما يحققونه من مكاسب. ليس المهم المكاسب الشخصية. التي ربما كانت مشروعة. وبالتأكيد هناك مَن سوف يقوم بتقنينها من المتخصصين في هذا المجال. وإنما المثير للأهمية هو حالة "الكساد" التي أصابت المهرجان. وجعلته أقرب إلي التظاهرة أو الملتقي السينمائي أكثر منه مهرجاناً دولياً. حتي أصبح يشبه مهرجان الإسكندرية. يحتوي عناوين كثيرة لفعاليات عديدة من دون مردود فني ثقافي يعود علي الجمهور الذي بدوره يتضاءل. وأحياناً يختفي من بعض العروض والندوات. "الكساد" والرتابة. يطولان أفلام المسابقة. التي لا تعتبر في معظمها أعمالاً متوسطة أو فوق المتوسطة. ولكنها أبداً لا تحظي بدرجة الامتياز.. وجُلها من بلاد لا تعتبر الأقوي في مجال صناعة السينما. اللهم إلا السينما الصينية. المحتفي بها هذه السنة. أتذكر أنه في دورة 2012. استضاف المهرجان أهم مخرجي الصين "زانج ييمو" وأصدر المهرجان كتيباً عنه. وأقيمت ندوة أدارها المرحوم الدكتور رفيق الصبان.. فالسينما الصينية ضيف دائم علي المهرجان. إضافة إلي أن جميع أفلام المسابقة تقريباً شاركت في مهرجانات سابقة. ولا يوجد عرض عالمي أول. اللهم إلا فيلم "البر الثاني". أضعف أفلام المسابقة!!!... وحتي فيلم "يوم للستات" بدوره سبق عرضه في مهرجان لندن. لكن المهرجان ابتدع عبارة "العرض العربي الأول". والمعني المقصود أنه لم يعرض في مهرجان "دبي" آخر. والمهرجانات العربية كما نعلم لا يوجد بينها إلا "دبي" الذي يحظي باهتمام عربي ودولي. حتي وإن لم يكن من المهرجانات المصنفة "أ" في الاتحاد الدولي للمنتجين. عموماً ليس من العدل أن نقارن مهرجان القاهرة في ظروفه الحالية المتردية بمهرجانات فينسيا أو كان. أو برلين. وإن كان ذلك يبدو مشروعاً بعد 38 دورة. والسؤال الذي بدأت به هذا المقال. يثير الاهتمام بالفعل. لو تذكرنا عدد المرات التي يشكو فيها المنظمون من "قلة الموارد" والميزانية الضعيفة. والتقتير. علماً بأن فعاليات الدورات الأخيرة خلت من النجوم العالميين. وضمن أفلام العروض الأولي التي تتطلب ميزانية. وليس من ضمن فعالياتها "عروض استعراضية" مكلفة في حفلات الافتتاح والختام. اللهم إلا إذا كان ما رأيناه في هاتين المناسبتين يستدعي أرقاماً تثقل ميزانية المهرجان. تمثيل ضعيف.. û جاء تمثيل السينما المصرية في المسابقة الرسمية للمهرجان مناسباً لواقعها الآني. أي ضعيفاً. وتجارياً أكثر من كونه فنياً. وذلك برغم حصول ناهد السباعي علي جائزة التمثيل التي تستحقها فعلاً. والجائزة نفسها شهادة بأننا نمتلك طاقات فنية فتية. ولكننا نوظفها في أعمال تجرية لا تقوي علي التنافس. والمفارقة أن بعض الجوائز تحمل أسماءً مثل "فاتن حمامة" ومن بين المكرمين أسماء بحجم يحيي الفخراني. والمرحوم محمود عبدالعزيز. ورغم هذه "القوة" تحتل المرتبة الأضعف وسط المتسابقين.. لماذا؟!!.. ربما لأن الأفلام الأقوي والأكثر قيمة تهرول في اتجاه مهرجان "دبي" لأسباب تصب بالتأكيد في مصلحة صُناع هذه الأفلام أنفسهم. وحسب مفهومهم عن "المصلحة". ربما لأنه المهرجان العربي الأقوي "منظرياً". والأغني والأقدر علي توفير فرصة أوسع للتواصل مع موزعين ومنتجين أجانب وفرصة للحصول علي عائد مادي مقابل الاشتراك أو مقابل نشاطات أخري تصب في الدعاية عن الأفلام. ناهيك عن الحفاوة والاستقبالات.. و.. إلخ. نعرف أن النقود تتحدث بلغات عديدة. قوية أو ركيكة. ومن شأنها أن تأتي بالنجوم العالميين الكبار. أو نجوم من حجم "محمد علي" بطل "البر التاني" وهو نفسه المنتج الذي أنفق من حُر ماله 25 مليون جنيه في هذا العمل. إلي جانب الهدايا الصغيرة التي وزعها قبل العرض. وعشرات التذاكر التي اشتراها. وشركة الحراسة الخاصة التي أحاطت بالمكان علي أمل التنظيم وأغضبت بعض النقاد بسبب خشونة التعامل حسب ما قيل. ولا تسأل أمام لغة المال النافذة: لماذا؟!.. المثل الإنجليزي القديم "Mony Talks" النقود تتحدث. وملك الملوك إذا وهب. لا تسألن عن السبب!! فيلم "البر التاني" يُحسَب لمخرجه ومؤلفته أنه الفيلم الروائي الطويل الأول الذي يعالج موضوع الهجرة غير الشرعية. وهو الموضوع ذاته الذي أثارته أفلام عربية عديدة من دول شمال أفريقيا بالذات "المغرب. الجزائر. تونس" لأنها تعاني بالفعل من هذه المشكلة. والمشكلة الأهم أن الفيلم المصري يعتبر الأضعف. ولا أريد أن أسبق الأحداث. وأقول إنه الأقل تأثيراً لأنه لم يعرض حتي الآن في دور العرض. حتي نري تأثيره المباشر علي الجمهور. ورأيي أن أضعف أجزائه هي التي يفترض قدرتها علي التأثير. وأعني الجزء الروائي الأول الذي يستعرض ظروف الفقر الطاحنة التي تعيش فيها أسر الشباب الذي استعد للهجرة. كان من الممكن أمام المخرج أن يستعين بأسلوب السينما التسجيلية. ويذهب إلي حيث أسر الذين غرقوا في حادث رشيد. ويستعرض علي أرض الواقع أحوالهم المعيشية. وقد رأينا منهم نماذج عرضها التليفزيون بعد الحادث من خلال التحقيقات المصورة. وكان بمقدوره أيضاً أن يصور "القرية" التي لا يحضرني اسمها الآن. التي تجسد "الحلم" الذي أغوي شباب المنطقة. وذلك بسبب نجاح بعض من هاجروا للعمل في أوروبا ثم عادوا إلي قراهم. وشيدوا بيوتاً تشبه الطراز الإيطالي. فأشعلت حلم الهجرة لدي شباب المنطقة. فالهجرة في مصر لم تتحول إلي ظاهرة إلا بعد أن اختمرت في عقول الشباب الطموح فكرة "الثراء" والخروج إلي عالم البراح والحرية. حتي لو دفعوا حياتهم.. ليس الفقر وحده دافعاً للهجرة في مصر. وإنما "الانفتاح" علي العالم الآخر من خلال وسائل الاتصال الجماهيرية وإمكانية الخروج من "الزنقة" الفكرية والاقتصادية.. فمن يستطيع أن يوفر الآلاف لكي يدفعها إلي "سمسار" متوحش. يستطيع أن يقيم مشروعه الصغير لو امتلك إرادة البقاء والكفاح. وكان مستعداً بنفس القدر لممارسة أعمال صعبة وضئيلة الشأن من وجهة نظره. فالمهاجر ليس لديه مانع أن يعيش حياة الحيوانات. ويخضع لسطوة صاحب عمل يتعامل مع المهاجرين باعتبارهم "عبيد" لا حق لهم في الحياة. ولا في التعبير عن شكواهم. ولكن لديه موانع خايبة لفعل نفس الشيء في بلده. ما أريد أن أقوله إن رسالة فيلم "البر التاني" ضعيفة.. والمغامرة التي خاضها الشباب في عرض البحر لن تقنع المستعد أن يقامر بحياته لكي يغير ظروفه.. ولعل بطل الفيلم محمد علي الذي أنفق هذا المال الكثير من أجل بطولة مطلقة علي الشاشة. يقتنع بأن فيلماً واحداً لا يكفي لصناعة نجم. والآن. عليه أن "يحوش" ملايين أخري لإنفاقها علي أفلام ليس من أجل مصر كما يدعي. ويدعي كثيرون غيره.. وإنما من أجل فن جميل ومؤثر. وليكن شعاره: "ببطء. وإنما بإصرار علي النجاح".