افتتاح مدرستين في احتفالات العيد القومي بمحافظة دمياط    أمن الغذاء.. «هيئة ضمان الجودة» تعتمد برنامجين جديدين ب كلية الزراعة جامعة بنها    رئيس الوزراء يكشف أسباب أزمة البنزين ومحاسبة المسئولين    محافظ سوهاج: يعقد اجتماعًا لبحث الموقف التنفيذي لمشروعات "حياة كريمة" بمركز جرجا    لافروف: روسيا تعرض على أوكرانيا عقد اجتماع في اسطنبول الإثنين المقبل    إيران وعُمان تتفقان على دعم القضية الفلسطينية    إسبانيا وأيرلندا وسلوفينيا والنرويج تصدر بيانًا مشتركًا لقبول فلسطين عضو يالأمم المتحدة    تشكيل تشيلسي الرسمي لمواجهة ريال بيتيس في نهائي دوري المؤتمر الأوروبي    حرس الحدود يواصل جهوده في استقبال الحجاج القادمين من الأردن عبر منفذ حالة عمار    تسبب فى «عماه».. السجن 5 سنوات لمتهم بضرب زوج أخته بالدرب الأحمر    هيدى كرم وياسمين أحمد كامل ولمى كتكت فى عزاء جدة وئام مجدى    نوران ماجد تنضم لمسلسل للعدالة وجه آخر بطولة ياسر جلال    إقبال على «دير جبل الطير» للاحتفال بالليلة الختامية لرحلة العائلة المقدسة في المنيا (صور)    ما حكم الجمع بين نية صيام العشر الأوائل من ذى الحجة وقضاء رمضان؟ (فيديو)    عمرو الورداني: الحب بوابة الدخول إلى هذه الأيام العشر من ذى الحجة    عاجل.. «الصحة العالمية» تحذر من متحور جديد ل «كوفيد 19»    أسواق الأسهم الأوروبية تغلق على انخفاض جماعي    ساهم ب7 أهداف.. "النحاس" يُعيد" بريق وسام أبو علي في الأهلي (فيديو)    سقوط طائرة الحجاج الموريتانية.. اعرف التفاصيل الكاملة    «الوفد»: 200 عضو أبدوا رغبتهم الترشح في الانتخابات المقبلة.. وسندخل في تحالفات مع حزب الأغلبية    غدًا الأوبرا تستضيف معرض "عاشق الطبيعة.. حلم جديد" للفنان وليد السقا    حسن الرداد وإيمي سمير غانم يرزقان بمولودتها الثانية    دانا أبو شمسية: اتهامات حادة لنتنياهو بالفشل فى استعادة المحتجزين داخل الكنيست    عاجل.. الزمالك يطلب السعة الكاملة لمباراة بيراميدز في نهائي كأس مصر    أموريم: أشعر بالذنب بعد كل خسارة لمانشستر يونايتد.. ولا توجد أخبار عن كونيا    حكم صلاة العيد يوم الجمعة.. أحمد كريمة يوضح    رئيس مصنع أبو زعبل: الدولة تهتم بالإنتاج الحربى ونحقق أرباحا مع تطوير الصناعات    نائب وزير الصحة يشيد بأداء عدد من المنشآت الصحية بقنا.. ويحدد مهلة لتلافي السلبيات    انطلاق أعمال إعداد الإستراتيجية العربية للأمن السيبراني بمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    دعاء الإفطار في اليوم الأول من ذي الحجة 2025    رئيس وزراء كندا يؤكد سعي بلاده لإبرام اتفاق ثنائي جديد مع أمريكا لإلغاء الرسوم الجمركية    مسؤولة أممية: المدنيون بغزة يتعرضون للاستهداف المباشر    «زي النهارده» في 28 مايو 2010.. وفاة الأديب والسيناريست أسامة أنور عكاشة    حسن الرداد وإيمي سمير غانم يرزقان ب «فادية»    مواقيت الصلاة بمحافظات الجمهورية غدًا.. وأفضل أدعية العشر الأوائل (رددها قبل المغرب)    الجيش الإسرائيلي ينشر مشاهد لنصب مستوصف ميداني جنوب سوريا ل "دعم سكان المنطقة"    عطل مفاجئ في صفقة انتقال عمرو الجزار من غزل المحلة إلى الأهلى    مدير «جنيف للدراسات»: تزاحم أوروبي أمريكي للاستثمار في سوريا    اتحاد الصناعات يبحث مع سفير بيلاروسيا التعاون بالصناعات الثقيلة والدوائية    الفيوم تحصد مراكز متقدمة في مسابقتي المبتكر الصغير والرائد المثالي    رومانو: تاه يخضع للفحص الطبي تمهيدًا للانتقال إلى بايرن ميونخ    13 شركة صينية تبحث الاستثمار فى مصر بمجالات السياحة ومعدات الزراعة والطاقة    طارق يحيي: لن ينصلح حال الزمالك إلا بالتعاقد مع لاعبين سوبر    طريقة عمل الموزة الضاني في الفرن لغداء فاخر    د.محمد سامى عبدالصادق: حقوق السربون بجامعة القاهرة تقدم أجيالا من القانونيين المؤهلين لترسيخ قيم الإنصاف وسيادة القانون والدفاع عن الحق.    نائب وزير الصحة تعقد اجتماعًا لمتابعة مستجدات توصيات النسخة الثانية للمؤتمر العالمي للسكان    اسكواش - تتويج عسل ونوران جوهر بلقب بالم هيلز المفتوحة    5 أهداف مهمة لمبادرة الرواد الرقميون.. تعرف عليها    سليمة القوى العقلية .. أسباب رفض دعوى حجر على الدكتورة نوال الدجوي    الإعدام لمتهم والسجن المشدد 15 عامًا لآخر ب«خلية داعش قنا»    حملة أمنية تضبط 400 قطعة سلاح وذخيرة خلال 24 ساعة    «بيت الزكاة والصدقات» يصرف 500 جنيه إضافية لمستحقي الإعانة الشهرية غدًا الخميس    وزير التعليم: 98 ألف فصل جديد وتوسّع في التكنولوجيا التطبيقية    صحة أسيوط تفحص 53 ألف مواطن للكشف عن الرمد الحبيبي المؤدي للعمى (صور)    وزير الخارجية يتوجه إلى المغرب لبحث تطوير العلاقات    قرار من «العمل» بشأن التقديم على بعض الوظائف القيادية داخل الوزارة    محافظ بني سويف يراجع الترتيبات النهائية لامتحانات النظري للدبلومات الفنية قبل انطلاقها غدا    الحماية المدنية بالقليوبية تسيطر على حريق مخزن بلاستيك بالخانكة| صور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذكريات مسائية الروائي الكبير: محمد جبريل
نشر في المساء يوم 06 - 10 - 2016

شفيق خالد أول من التقيت في المساء. غالبت التردد بعد أن قرأت لافتة المصعد "اثنان فقط وإلا سقط". هل يسقط براكب واحد؟
ضغطة الزر صعدت بي إلي الطابق الثاني. والأخير. الصالة واسعة. في منتصفها طاولة مستطيلة تخلو من أي شيء. الغرف - علي الجانبين - مفتوحة. ومغلقة. السكون يشمل المكان. كأنه خلا هو أيضاً من ساكنيه.
لم أعرف إن كان شفيق خالد في طريقه إلي الداخل. أم أنه يتهيأ للنزول؟
سألته عن كمال الجويلي. أشار إلي نفسه: أنا.
صدقت. وبدأت في الحديث عما قدمت من أجله.
قاطعني: ادخل يمين. قبل آخر طرقة علي اليمين تلاقي الجويلي.
عرفت -فيما بعد -أن الدعابة هي ما تحمله -في الأغلب -كلمات شفيق خالد. لو لم تأخذ بالك. قد تصدق أن النيل بدّل مجراه من موازاة الكورنيش إلي شارع رمسيس!
هو في عمله جاد. دقيق. المعلومة لابد أن تكون صحيحة. عدا تلك الأوقات. فمن المهم أن تتدبر كلماته. مدي ميلها إلي الدقة أو الدعابة.
رغم حداثة سني آنذاك. فقد صرنا -شفيق وأنا -صديقين. حتي لقب "الأستاذ" الذي خاطبت به أبناء الجيل الذي سبقني في المساء. أذنت لنفسي بإهماله. فهو صديقي شفيق.
مع أني كتبت الكثير من التحقيقات والحوارات. فقد كان ذلك بطلب من سليمان مظهر -مدير التحرير- أو عبد الفتاح الجمل. أو بتصرف شخصي.
أذكر أول ما كتبت: كانت الحيرة بادية في ملامح سليمان مظهر. زفر في غضب: لا أحد!. ثم اتجه إلي متسائلاً: تكتب تحقيق؟
قلت بلهفة: كتبت تحقيقات في الجمهورية.
قال: اذهب إلي المطار الآن. التق أول فتاة مصرية أجريت لها عملية قلب مفتوح.
عدت من المطار مع نجمة الصبح. في يدي تحقيق سبقت به الصحف الصباحية. أجري العملية طبيب مصري مقيم في لندن. هو حمدي السيد "نقيب الأطباء المصريين فيما بعد". قدمت التحقيق -كما طلب سليمان مظهر- إلي عبد الوهاب دنيا مسئول المحافظات. أوقات غيابه عن الجريدة نادرة. فهو يراجع المواد المتأخرة. ويعيد صياغة ما يصله من مراسلي المساء في المحافظات. لم يعرف الغياب إلا عندما أجبره مرض عينيه علي السفر إلي أسبانيا للعلاج. لكن المرض لازمه. حتي فقد البصر. وكما عرفت. فقد شيعت جنازته في مدينته فارسكور -بحب أهله وبلدياته - كما تشيع جنازات الأولياء.
قرأ عبد الوهاب دنيا التحقيق. أعاد كتابة المقدمة. ودفع به إلي المطبعة. غمرتني سعادة الدنيا في قوله: بتكتب كويس.
أجريت -بعد ذلك -لقاءات وحوارات أبطالها -فيما أذكر- عبد الفتاح عنايت المتهم بقتل السردار الإنجليزي. ابن بمبة أشهر مجرمي الدلتا. أو الرجل الذي سبقت شهرته جرائم خط الصعيد. أمضيت يوماً كاملاً في وحدة مجمعة. ذلك المشروع الرائد الذي بشر بتجدد الحياة في القرية المصرية. ثم أهملناه -العادة -بلا سبب.. وتحقيقات وحوارات أخري كثيرة. أهمها ما كنت ألجأ فيه إلي أستاذي نجيب محفوظ. يجد رئيس التحرير في حوارات محفوظ تنشيطاً للمادة التحريرية. وللتوزيع.
المرة الوحيدة التي شاركت فيها شفيق خالد عمله في التحقيقات. عندما وافق علي اقتراحي بتقديم تحقيقات صغيرة. ستة أو سبعة تحقيقات. تتناول نماذج متميزة في حياتنا.
أدين لشفيق خالد بعودتي إلي المساء. لزمت البيت عقب عودتي من رحلة عمل خليجية طويلة. أزمعت أن أفرغ للكتابة بعيداً عن العمل الوظيفي. لكنني عدلت عن قراري بقول شفيق خالد وهو ينهي مكالمته الهاتفية: الجورنال عاوزك!
المهم. سرت في الردهة الطويلة. الغرف إلي اليمين. والمنور بعرض المساحة المقابلة. دخلت الحجرة قبل الأخيرة. تبدلت نفسيتي بمجرد جلوسي إلي كمال الجويلي. أحببت جمهورية أحمد عباس صالح وسعد الدين وهبة ونعمان عاشور ورشدي صالح ويوسف إدريس وسعد مكاوي وعبد الرحمن الخميسي وغيرهم من أقوي فصيل للكتاب في تاريخ الصحافة المصرية. السعادة تغمرني وأنا أحاورهم. أسأل ويجيبون. يقرءون لي حتي ما يختلف عن المادة الصحفية. يشيرون بالنصح والتوجيه. وبالموضوعات التي ينبغي أن أكتبها.
نقل سعد الدين وهبة إلي وزارة الثقافة. وحل آخر مكانه. لم أعد أستطيع العيش في ظل شخصية تذكرك -في تعبيراتها وتصرفاتها -بشخصيات أفلام السبكي. ظني - وليس في رأيي محاولة للانتقاص أو ما شابه - أنه أتي لموقعه المهم بتوصية من جسده العملاق. وصوته الشوارعي. وزواجه من فنانة لبنانية. عدا ذلك. لم يكن يملك إلا الشخط والنطر وإطلاق العبارات البذيئة. وربما الشتائم. ويدفع بالمواد التي يتسلمها - دون قراءة - إلي أحمد عباس صالح ويوسف إدريس ونعمان عاشور وسامي داود لقراءتها. وإجازتها بعد المراجعة.
لاحظت ذلك كله في اليوم الأول, أزمعت أن أتجنب لقاءه ما أمكن. حرصت أن أقدم بضاعتي إلي واحد من المبدعين الأربعة. يعيدها مشفوعة برأيه. أو يدفع بها إلي ¢ المحرر¢ بعد أن يجري فيها ما يراه من تعديلات.
ثم صار الابتعاد ضرورة.
كمال الجويلي
كنت قد قرأت لكمال الجويلي يومياته في "المساء". هو دائم التحفيز علي مجاوزة الظروف المحبطة. وإعادة صياغة الحياة. عرفت -بانقضاء الأعوام -سر الحيوية الدائمة التي ظل الجويلي يتمتع بها حتي بلغ الخامسة والتسعين. ينصت أكثر مما يتكلم. ولا يتكلم إلا لضرورة. لم أره يوماً منشغلاً بما صار الهواء الذي نتنفسه هذه الأيام من الكذب والتآمر والوقيعة والزعيق والميل إلي العراك والتعتيم علي الآخرين. استفزته كلمات معيبة. فاكتفي بالقول: انت بتغلط. وأنا أحترم نفسي!
لم أكن التقيت الجويلي من قبل. رويت له كل شيء. حتي التفصيلات الصغيرة ذكرتها.
أنصت الجويلي في اهتمام. هزات رأسه. وانفعالات وجهه. حضتني علي المتابعة. قلت كل ما عندي.
قال لي الجويلي في نبرته الهادئة. لا يبدلها حتي لو احتدمت المناقشة: تشتغل معانا؟
هتفت: يا ريت!
إلي كمال الجويلي. هذا هو الإهداء الذي صدرت به كتابي "مصر في قصص كتابها المعاصرين" تعددت الأسئلة عن كمال الجويلي -السؤال ليس استنكارياً. إنما هو عدم معرفة- هل الإهداء لأحد أقربائك؟ هل هو صديق؟.. أسئلة كثيرة. تدفعني -للتقدير الذي أحمله للرجل- إلي الحديث عنه طويلاً. وكثيراً.
القلة يعرفونه ناقداً تشكيلياً. فمن الغريب أن أهدي له كتاباً في علم الاجتماع الأدبي. أروي -في إيجاز -ما سأرويه الآن عن كمال الجويلي:
ترك لي الجويلي -بعد أشهر قليلة -مسئولية صفحته الاجتماعية ¢ كل الناس¢. نسخة مسائية من صفحة سعد الدين وهبة بالجمهورية. أحرر الصفحة الأسبوعية. والأعمدة الثلاثة الثابتة يومياً. أتلقي التحقيقات والحوارات والأخبار. أراجعها. أو أعيد صياغتها. وأعد لها الماكيت -كانت العادة أن يتولي المحرر المسئول عن صفحة ما. إعداد الماكيت بالقلم الرصاص. ويشرف علي التنفيذ في المطبعة. يعني من بابها- تدفعني كلمات الجويلي المشجعة. باعتبار أن الصحافة مدخل إلي الحياة الأدبية.
لم تكن الصحافة المصرية قد شهدت انتشار الأوفست. ولا الكمبيوتر. ومستحدثات الطباعة الحالية. الحروف تصف علي الطاولة في صالة التنفيذ. يأخذ منها ¢ المنفذ¢ ما يطابق ماكيت الصفحة.
كانت كلماته تعكس ثقافة عميقة. لا تقتصر علي الفن التشكيلي. فهو قارئ جيد. ومتابع للإبداعات الفنية دون التقيد بجنس فني محدد. وكان للجويلي -الناقد التشكيلي- مقاييسه الجمالية التي تحضك علي التأمل. وإعادة النظر.
زرنا -في قاعة الغرفة التجارية بالفلكي- معرضاً للفن التشكيلي البريطاني. توقفنا أمام اللوحات. أشاهد. ويعلمني الجويلي قراءة كل لوحة. أطلت التوقف أمام لوحة بيضاء تماماً. عدا دائرة سوداء صغيرة في أسفل.
قلت: لوحة بلا معني.
قال الجويلي: هل تتصور أن معرضاً مهماً يضم لوحة بلا معني؟ لماذا لا نعيد -بنون الجماعة- النظر إليها؟
أعدت النظر. رأيت وحدة الإنسان في الدنيا. وحدة الإنسان في نهاية حياته. حجم الأرض في اتساع الكون.. معان كثيرة رأيتها بالتأمل. ومحاولة القراءة.
أما الجمال الجسدي. فإن الجويلي ينظر إليه كوحدة منسجمة. قد نجد القبح في جزء من الجسد الأنثوي. فإذا نظرنا إلي الجسد جميعاً. فسنجد الجمال الذي يجذبنا بلا تفصيلات محددة.
ذلك كله. أفادني -أعترف -في المشروع الذي ألزمت به نفسي. أنهي عملي في الجريدة. فأسرع إلي البيت. لأخلو إلي المصادر والمراجع التي تشمل -في مراحلها التاريخية- ما يفوق القرن. روايات وقصص وكتابات في التاريخ والسياسة والأنثربولوجيا وعلم الاجتماع والنقد الأدبي وغيرها من الإنسانيات. أسجل ملاحظاتي. وما أري تضمينه من فقرات. حتي يدركني التعب.
التقط الجويلي من كلماتي أن لي مشروعاً أدبياً مؤجلاً حتي يجاوز اسمي في الصحافة كتابة الطباشير إلي الكتابة الحقيقية.
أتاح لي ما يشبه التفرغ الذي تقدمه وزارة الثقافة للمبدعين والدارسين. أعد "كل الناس" في أقل وقت. وأجري إلي البيت. أو إلي المصادر والمراجع في المكتبات العامة. أجمع بطاقات كتابي "مصر في قصص كتابها المعاصرين".
علي الرغم من فارق السن بيننا -الجويلي من مواليد 1920- فقد كان الرجل يدعوني -في إطار الصداقة- إلي مناداته باسمه المجرد "كمال". لكنني - حتي الآن - أصر أن يكون لقب "الأستاذ" سابقاً للاسم.
ذات يوم. كنت أصحب عبد الفتاح الجمل إلي دمياط. علي بعد خطوات من الجريدة أوقف السائق السيارة لنداء الجويلي.
- إلي أين؟
- دمياط.. تذهب معنا؟
- طبعاً -الجويلي من دمياط-
وصعد إلي السيارة ببساطة استغربتها. أمضينا اليوم في دمياط دون أن يتصل الجويلي بأسرته. ولا أي أحد. يبلغه برحلته المفاجئة.
عبد الفتاح الجمل
كان الفن هو الحب الأول في حياة عبد الفتاح الجمل. وكان هو الدافع لأن يهجر مهنة التدريس - التي بدأ بها حياته العملية - إلي الصحافة. باعتبار أنها المهنة الأقرب لذوي الاهتمامات الثقافية .
ولأن عطاء الفنان لا يتبدي فيما يبدعه فحسب. إنما هو نبض مشاعره وتصرفاته وتعامله مع الآخرين من حوله. فقد كان الهم الأول لعبد الفتاح الجمل - ولأعوام طويلة - أن يعطي الفرصة لهؤلاء الذين يبدؤون خطواتهم الأولي. واستطاع بالفعل أن يمهد الطريق أمام عشرات الأسماء. حتي احتلت - فيما بعد - مواقع متفوقة في حياتنا الثقافية: محسن يونس. محمد روميش. إبراهيم أصلان. عبد الرحمن الأبنودي. محمد البساطي. جمال الغيطاني. محمد كامل القليوبي. سيد حجاب. وعشرات غيرهم.
نسي الجمل نفسه. شغله الاهتمام بالآخرين. فأهمل ذاته التي كانت قد اختزنت ملاحظاتها ورؤاها وتجاربها وقراءاتها. وتريد أن تعبر - بالفن - عن ذلك كله.
لست أدري متي. ولا كيف. أدرك عبد الفتاح الجمل البديهية التي تؤكد أن اهتمام الفنان بما يبدعه الآخرون يجب ألا يشغله عن إبداعاته. لكن الجمل استطاع - بعد أن بدأ رحلة المعاش - أن يؤكد جدارته بموضع الأستاذ الذي يعلم. ويرعي. ويهب الفرصة. غير مرتكز إلي منصب. اختار أن ينفض يديه من المنصب. ويعانق الفن وحده. المحاولات الرائدة. والجادة. والمتفوقة. هي السبيل لذلك كله. بدءاً بالخوف. مروراً بمحب -اسم قريته التابعة لمحافظة دمياط- وآمون وطواحين الصمت. وانتهاء بوقائع عام الفيل.
أذكر أني أشرت في "المساء" -عقب دعوتي للإشراف علي القسم الثقافي- إلي الدور الذي أسهم به عبد الفتاح الجمل في تقديم أجمل المواهب من أبناء الستينيات. وعدت أن يكون هذا هو الإطار الذي تتحرك من خلاله خطواتي القادمة. لم أكن أعرف أن الظروف تغيرت. وأن الحرص علي الرواج وسم الصفحات الأدبية بصفة الاحتياط. فهي توصف بصفحات التأجيل. أي التي تؤجل لتحل - بدلاً منها - مادة إعلانية. أو بواقي المواد التحريرية. أما المواد التي تنشرها فلا شأن لها بالعبارات التي "لا تودّي ولا تجيب". إنها تتجه إلي قراء متبايني التعليم والثقافة. والتجريب شر لابد من محاربته.
لعل المشكلة التي عاناها عبد الفتاح الجمل. هي المشكلة نفسها التي عاناها الصديق الراحل شاعر العامية محسن الخياط. نذر كلاهما نفسه لمساعدة الأجيال الطالعة: رعايتها. وتوجيهها. وتقديمها. وفتح سبل النشر أمامها. وقدما عشرات المبدعين. وبالذات هؤلاء الذين تزكيهم مواهبهم وحدها. بلا واسطة من كبير. ولا علاقات عامة. ولا انتماء لشلة. أو مجاملات. كانت القيمة الإبداعية هي شاغل الجمل والخياط. لا يعنيهما إن سلم المبدع محاولته بنفسه. أو مضي بها علي جسر طابع البريد. وفوجئ الكثير من المبدعين في أقاليم مصر بنشر إبداعاتهم في الجمهورية والمساء. دون أن يكونوا علي صلة بهما. أو بأحدهما.
مع ذلك. فإن الجمل والخياط لم يكونا مجرد راعيين للأجيال الطالعة من المبدعين. أبدع الخياط ما يشكل العديد من الدواوين في شعر العامية المصرية. فضلاً عن دواوينه التي صدرت بالفعل. وغني المطربون قصائد مواكبة للأحداث التي عاشتها مصر. منذ الزمن القديم إلي زماننا الحالي. أما الجمل فقد كان أهم ما تتسم به كتاباته. أسلوب متميز ومتفرد. ينبض بالمصرية الخالصة. أنت في كتابات الجمل لا تستطيع أن تقرأ في استرخاء. ولا لمجرد إزجاء الفراغ. أو التسلية. فهو يعتصر طاقته المبدعة في ما يكتب . سواء في استخدام تعبيرات الموروث الشعبي. أو في التعبيرات التي يجيد نسجها. أو في العناية بالتفصيلات الصغيرة التي ربما تعبرها النظرات. لكن عيني الجمل تلتقطانها بذكاء الفنان. وتنقلانها علي الورق. حياة جديدة. ومتجددة. لا تبتعد عما نحياه. وإن أضافت إليها فنية متفوقة. أبرزها - كما قلت - لغته الثرية. وأسلوبه. وإجادته تطويع الفنون الأخري في تقديم عمل إبداعي شديد الخصوصية. حتي اليوميات. التي ظل الجمل يكتبها لسنوات في "المساء" جاوزت التسمية. فجاءت قطعاً من الفن الجميل. وأذكر أن محمد علي ناصف الكاتب الصحفي القديم. قد انتهر الجمل أمامي - في بداية الستينيات - لأنه - في تقديره - خلق للكتابة.. ثم تأتي بقية الأشياء!
عبد الفتاح الجمل - بأبوة لم يمارسها. لأنه لم يتزوج - جعل قضيته رعاية الأجيال الطالعة من الأدباء. ربما ساعده علي أداء ذلك الدور موضعه في "المساء". أذهلته المحاولات الفجة التي كانت تنشرها معظم المجلات الحكومية آنذاك - عدا مجلة يحيي حقي - واتجه إلي هؤلاء الذين لا يملكون سوي الموهبة وحدها. فعني بتقديمهم. ونشر محاولاتهم. وأصبحوا - رغم فارق السن - من أخلص أصدقائه.
وإذا كان الكثير من أدباء جيلي قد صدموا من قسوة أحكامه. وصراحته. ودعاباته التي تبلغ حد الشتم. فإن الأقل ممن أجادوا التعرف إلي ما وراء المظهر العنيف. عرفوا إنه يخفي نفساً طيبة. أميل إلي الخجل. فيداريها بعكس ما في داخله [ لا أدري كيف كان جسد عبد الفتاح الجمل. النحيل. يتحمل ماء الدش البارد في عز الشتاء. كل صباح يذكرني بأحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ. لكنه كان دائم الحديث - باعتزاز - عن تصرفه الصباحي!-
رعاية الأدباء الجدد لم تكن الإنجاز الأهم للجمل. نحن نقدر ذلك الدور. ونشكره عليه. وهو دور مطلوب من كل الأدباء الذين أتيح لهم الموقع وفرص النشر. لكننا نظلمه كثيراً إذا جعلنا الأولوية لدوره في رعاية أدباء الستينيات. كان مبدعاً عظيماً. تفوق - في كتاباته - علي معظم مبدعي عصره. ولم تكن أستاذيته "صحفية". إنما كانت أستاذية "أدبية". تعطي المثل فيما تهبه من معطيات. وحين نالت آخر رواياته "محب" جائزة أفضل كتاب في معرض القاهرة الدولي للكتاب الخامس والعشرين. تصور البعض أنه نال الجائزة لدوره في رعاية الأجيال التالية من الأدباء.. لكن الرواية كانت تستحق الجائزة كعمل إبداعي متميز. يمثل حلقة في سلسلة أعمال إبداعية.
بالمناسبة. فمن معايب حياتنا الثقافية -ولعلها ظاهرة مصرية- أن البعض يسلم أذنه لأفواه الآخرين. يقذفون فيها بالشائعات والحكايات الكاذبة والوقائع المختلقة. ويبني علاقاته بالآخرين في إطارها. أذكر أني كنت جالساً إلي أستاذي الراحل عبد المنعم الصاوي. تطرق بنا الحديث إلي صفحة "المساء" الثقافية. كانت تخصص يوماً للموسيقي. ويوماً للفن التشكيلي. فالنقد الأدبي. وتفرد عرضاً لكتاب في يوم آخر. ثم قصة بامتداد الصفحة. كل يوم له مادته التي تهم عدداً محدداً من المثقفين. واقترحت أن تكون الصفحة منوعة. تشمل الفن التشكيلي والقصة والنقد والموسيقي وغيرها. بحيث يتحول قراء اليوم الواحد إلي قراء لكل أيام الأسبوع. كان ما جري مجرد دردشة. بحيث أهملنا الشخص الثالث الذي كان ينتظر من الصاوي -وكان نقيباً للصحفيين إلي جانب رئاسته لمجلس إدارة دار التحرير- أن ينهي له خدمة نقابية. نسيت الأمر في اللحظة التالية. تصورت أنه انتهي بانتهاء الحوار العفوي. لكن الجمل فاجأني بخصومة امتدت أشهراً. اعتدت أن أهمل ردود أفعال. أو أصداء. ما تحدثه الأكاذيب من أثر سلبي بين صديق ما وبيني. أعتصم بالصبر حتي يدرك صديقي الحقيقة. فيعتذر. سألني كمال الجويلي: لماذا لا تصالح الجمل؟ قلت: أنا لم أخاصمه لكي أصالحه!. وروي لي الجويلي -نقلاً عن الجمل- ما همس به ذلك الذي سعي بالوقيعة بين الجمل وبيني. زاعماً أنه تابع مؤامرة كنت طرفها الآخر. لكي أحل محله!. خاصمني الجمل دون أن يسأل نفسه: لماذا لا أتعرف علي حقيقة ما جري؟ وهل يحتاج الصاوي - بمكانته - إلي مؤامرة؟
المهم أن الجمل أدرك -بعد مضي أشهر طويلة- حقيقة ما حدث. لم أكلم الواشي عن فعلته. لكنني أسقطته من قائمة معارفي. وإن كانت تصلني أنباء محاولاته التي لا تمل في حياتنا الثقافية. وشاية ووقيعة وكذباً. ربما دون أن يعي هو نفسه: لماذا؟!
أعترف أن أمثال هذا ¢ الواشي ¢ لا يزيدون عن أصابع اليد الواحدة. لكنهم أشبه بالفيروسات المدمرة في جسد حياتنا الثقافية. الطريف - والغريب - أنهم معروفون بالاسم. ويعرفون أن جماعة المثقفين تعرف نياتهم وتصرفاتهم. لكن الطبع - كما يقول المثل - يغلب.
عاشور عليش
مع أن عاشور عليش - في تعدد المواقع التي تولاها في الصحف المختلفة - كان صحفياً ناجحاً. فإنه لم يكتف بالنجاح الشخصي. وإنما حرص أن يفيد بخبراته وتجاربه ورؤاه عشرات من صحفيي الأجيال التالية. صار لهم قدوة وأستاذاً. يوجه. وينصح. ويرفض أحياناً. ويري أن الصحفي الحقيقي هو من يأتي بالخبر. ويحسن اختيار العناوين. ويجيد كتابة التحقيق والمقال. ويلم بالعمل الصحفي في كل أبعاده. كان الصحفي - في تقديره - موهبة أولاً. ثم مجموعة معارف وخبرات بالمهنة التي ينتسب إليها. فضلاً عن الحب والإحساس بالمسئولية.
أذكر مناقشاته معنا - محيي السمري وأنا - حول بعض القضايا التي تشغل الناس. يسأل. ويستوضح. ويحاول استجلاء ما يراه غامضاً. يقول لي السمري: الأستاذ عاشور يحتشد لمقاله القادم!
وكان ذلك دأب عاشور عليش في كل ما يكتب. لابد أن يتعرف إلي رأي الشارع. ويستند إلي معلومات صحيحة. ويعبر - في الوقت نفسه - عن وجهة نظر تستحق الالتفات. وحين صدرت أولي مجموعاتي القصصية. كتب عنها عاشور عليش كلاماً لا تستحقه. لكنه عكس رغبته في تشجيع أحد تلامذته. وهو التصرف نفسه الذي كان يلتزم به حين يقرأ لواحد من هؤلاء التلاميذ ما يستحق التشجيع. لا يكتفي بالملاحظات السلبية الشفهية. بل يزكي ما قرأ - بعد أن ينشر - بكلمات متحمسة. تدفع كاتبها إلي مزيد من الإجادة. ومع أنه كان ينتسب إلي جيل الوسط بين قيادات "المساء" في أعوام الستينيات. فإنه كان يتميز بأبوته التي قاربت أبوة أستاذنا الرائد الكبير محمد نجيب الذي تدين له الصحافة المصرية. وليست "المساء" وحدها. بأفضال مهمة. وثمة العشرات من كبار الصحفيين الذين تعلموا علي يديه. أذكر منهم موسي صبري الذي روي لي أن أول أجر تقاضاه كان خمسة جنيهات. دفعها له أستاذنا محمد نجيب من جيبه! -أرجو أن يتاح لي الوقت فأكتب عن هذا الرائد العظيم- كانت مساعدة الأجيال الطالعة بالتقويم والنصح والتشجيع. سمة ملازمة لتصرفات عاشور عليش. يرافقها تفوق حقيقي. تمثل في الكتب التي أصدرها. والمقالات التي ناقش من خلالها هموم المجتمع. والتحقيقات والأخبار التي تولي صياغتها وتقديمها.
آثر عاشور عليش أن يخلد إلي الراحة في أخريات أيامه. لكن تأثير إسهاماته يبين في التطور الذي أحدثه في الصحافة المصرية. وفي عشرات التلاميذ الذين يدينون له بمزيد التقدير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.