كان أصحاب الاتجاه إلي الفرعونية- في أعقاب ثورة 1919- يتحدثون كثيراً عن أمجادهم التاريخية. وعن آبائهم الفراعنة. ويستمدون من هذا التاريخ القديم قوة معنوية "تساعدهم علي الصمود في وجه أوروبا التي تعتمد علي شبابها وحاضرها الفتي". وفي 4 نوفمبر 1926 وصل عالم الآثار الإنجليزي هيوارد كارتر إلي مقبرة توت عنخ آمون. أو إلي بداية السرداب الذي يفضي إلي المقبرة. كانت أول مقبرة فرعونية يعثر عليها دون أن تتعرض للعبث أو السرقة. وتابع العالم كله. والرأي العام المثقف المصري أنباء تلك الكشوف الحديثة في حفريات الآثار. وعكست الضجة العالمية تأثيراً مباشراً علي المصريين. نبهتهم إلي قيمة تراثهم الفرعوني. وحفزتهم لدراسة تاريخهم القديم. وبديهي أن الأدباء كانوا في مقدمة المتأثرين بتلك المكتشفات. كان أعلي دعاة الاتجاه إلي الفرعونية صوتاً محمد حسين هيكل وطه حسين وسلامة موسي ومرقص سمكة وحسن صبحي ومحمد عبدالله عنان وتوفيق الحكيم. وكانت صحيفة "السياسة" الإسبوعية منبراً تنطلق منه الأصوات بتلك الدعوة. والتأكيد علي أن "بين مصر الحديثة ومصر القديمة اتصالاً نفسياً وثيقاً. وأن ما بين مصر الحاضرة ومصر الغابرة من صلات. لا يمكن فصله". ثم تراجع هيكل- في ظروف دينية وسياسية- عن دعوته إلي إحياء التراث الفرعوني. وعن الاتجاه ناحية الغرب. وتحول للمدافعة عن العروبة. ليس بالمعني القومي. وإنما باعتبارها تعبيراً عن الإسلام. وألف كتاباً مهماً هو "حياة محمد" الذي يعد مرجعاً أساسياً في حياة الرسول. ثم كتب في ملحق "السياسة"- 1933- مقالاً بعنوان "الفرعونية والعربية" قال فيه: "إن دراسة هذه الحضارات الغابرة التي قامت في مصر والشام والعراق. وصور الشبه وصور الاختلاف بينهما. من شأنه أن يلقي كثيراً من الضياء علي ما تطورت إليه الحضارة الإسلامية خلال هذه الخمسة عشر قرناً. وجهت أثناء عصور طويلة منها مصير العالم. وهي تزداد كل يوم انتشاراً. وإن عدت عليها- من حين لحين- عاديات الزمن. فركدت أو جمدت. فهذه الحضارة الإسلامية لم تنشأ. ولم يكتمل نظامها في حياة النبي عليه السلام. بل تكونت من بعده شيئاً فشيئاً. باختلاطها بالحضارات المختلفة التي غزاها المسلمون. والتي تمثلوا بعد أن تأثروا بها. وأثروا فيها. وكلما ازددنا في إدراك هذه الحضارة دقة. كنا أكثر علي بحثها قوة واقتداراً. ويومئذ تبرز الفكرة الإسلامية- أو الفكرة العربية كما يرد البعض تسميتها- قوية. ممتلئة جدة وحياة ونشاطاً. وثابة إلي ميادين هذه الحياة التي تحيط بنا قادرة علي أن توجهها إلي نواح عديدة. ليست الفرعونية. وليست العربية. وليست إسلامية العصور الوسطي. ولا هي إسلامية عصور الانحطاط التي تجاوزناها. ومازالت تغمرنا". وكان مبعث اتجاه هيكل الإسلامي- كما روي في مذكراته- حركة التبشير المسيحي التي نشطت في عهد صدقي. وفدت من الولاياتالمتحدة. ومول نشاطها عدد من الأثرياء الأمريكان. اتخذت البعثات التبشيرية من الجامعة الأمريكية منطلقاً لها. وتزايد نشاطها إلي حد الوقوف علي كراسي ومصاطب في شارع الأزهر. وفي شوارع أخري بالقاهرة والإسكندرية. وتوزيع المنشورات التي تهاجم الإسلام. ووصلت المنشورات إلي العلماء والمشايخ- بمن فيهم شيخ الجامع الأزهر- تأخذ علي المسلمين مثالب شتي. وكان بعض دعاة المسيحية يوزعون الحلوي علي المارة في الشوارع لاجتذابهم إلي عظاتهم. ودعوتهم إلي المسيحية. وكانت حالات اعتناق المسيحية تتم سراً في معظم الأحيان. وبالإضافة إلي محاولات تحويل المسلمين إلي المسيحية. وتخاطف الأقباط الأرثوذكس إلي أحد المذهبين الكاثوليكي والبروتستانتي- فقد كانت هناك محاولات تحويل تبادلية من الكاثوليكية إلي البروتستانتية. وبالعكس تحول كل من المذهبين إلي خطر ينبغي رده. ثم امتد النشاط التبشيري إلي مدن الأقاليم تغري المسلمين والأقباط الأرثوذكس في اتجاهين أولهما تحويل المسلمين عن ديانتهم. والثاني تحويل الأقباط المصريين عن مذهبهم. أخفقت البعثات التبشيرية في كلا اتجاهيها. إلي حد إعلان هنري فورد أكبر ممولي حركة التبشير أنه قد دفع نصف مليون دولار. دون أن يسمع بمصري واحد تحول عن الإسلام إلي المسيحية. أو تحول عن مذهبه المسيحي إلي مذهب مسيحي آخر. يقول هيكل: "لقد كنت من أشد الأعضاء تحمساً لمقاومة هذا التبشير. اقتناعاً مني بأن هذه الحركة يقصد بها إلي أضعاف ما في النفوس من ثقة بدين الدولة. ولما تنطوي عليه من قصد سياسي. هو إضعاف معنويات الشعب بإضعاف عقيدته. وإن لم يبلغ هذا الإضعاف حد ارتداده عن دينه إلي دين آخر. هذا إلي أنني رأيت في هذه الحركة مقاومة لما أومن به من حرية الرأي. فإغراء الناس بالوسائل المادية لحملهم علي تغيير مذهبهم أو رأيهم هو محاربة دنيئة لهذه الحرية. وهو استغلال للضعف الإنساني كاستغلال المرابي حاجة مدينة ليقرضه بالربا الفاحش. والتبشير. فضلاً عن هذا. مناف لقواعد الخلق. مادام يتم في الظلام. ولا يصارح القائم به الناس برأيه. ليناقشوا هذا الرأي. وليبينوا ما فيه من زيف وفساد. وكان من أثر هذه الحركة التبشيرية وموقفي منها أن دفعني للتفكير في مقاومتها بالطريقة المثلي التي يجب أن تقاوم بها. ورأيت أن هذه الطريقة المثلي توجب علي أن أبحث حياة صاحب الرسالة الإسلامية ومبادئه بحثاً علمياً. وأن أعرضه علي الناس عرضاً يشترك في تقديره المسلم وغير المسلم". بدأ هيكل في نشر فصول في "السياسة" الأسبوعية عن حياة محمد. انتهت به إلي تأليف كتاب كامل عن حياة الرسول. وكان بدوره فاتحة دور في نشاط هيكل الأدبي وآثاره الفكرية.