لقد رأيت كل شيء في ذاكرة الغبار. حين أطلت منه عيون الظباء. وهي تبكي. وقطيعهم الذي بلون الجبال يقطع السهوب نحونا. يتناثر بين الخيام. ويطوح قرونه الشائبة في ذعر. كجدائل السبايا. حينها. أحسست بصاحبي الهرم يلسعني بقسوة علي ربلتي. ويرجوني الهرب. لما عدت في الصباح. لم أجد إلا الرماد. ودم الظباء. الذي تجلط علي الرمال. كبتلات الناب. كنت فيما مضي. راوية. أحمل لهم هودج الينابيع والحكايات. لا أذكر متي رحل قومي عني. كل ما أعرفه أني الآن جمل غريب. ورخيم صوت صاحبي في المغيب. بينما ينشد الشعر وسط طلقات الحجافل. وليت شارداً. مبتعداً عن مسارات القوافل وحدود القبائل. أهفو في السري. لأني لم أعرف ضحي مذ بدأت دبيبي. كل السبل كانت محاطة بالغرابة. والجهات الكالحة. ولغة مالحة. غير ما كان يلقنني صاحبي من زلال. لكني احتملت. أم فررت؟. وقفوت آثار قومي علي التلال. من هناك رأيت إخوتي بالعراء. يركضون في إثر ريح الشمال. يمدون أعناقهم في حنين للندي. يبكي اللجين في أفواههم. كمهل السوسن. عائدين من هجير الحجاز. في لغز الظلال. ها هي النوق والقواعيد. بعدما رعت الشتات. وسمنت بالنوي. تتمزق بالألغام. مضيت. يسيل زبدي بالفجيعة. قلت ها أنا وحدي يا صاحبي. لم آثرتني بالنجاة؟ كان النهر هنا. بحثت في الآفاق. كان الفرات هنا. هكذا انطبع في وعيي منذ بدء السلالة. لكني حين وصلت مواطنهم. لعلهم يذكروني. وجبت بين أهرام أور. زحفت الشمس أمامي كثور ينفق. ورأيت ألواح الرقيم المهشم. وزفاف الأزاميل بالعدل يغرق. في سحاب أبيض من الكشط. نزف الهواء بالنفط. ومن بين الركام انبسط المدي. وترقرق السراب عن مروج العراق التي تحترق. ذات مساء. هزمت ساقي. وشجني الظمأ. فأخذت أعب من الرمال. وإذا بها تنعصر في فمي كالكرم. فأدركت أني في كربلاء. وأوسكت علي تمني الموت. وأغمضت. لكن سهد قلبي. حين سمعت رجع نجواها. فانتفضت. وسرت نجياً إليها. ألبي بليل الصبا. لازلت كذلك. حتي وجي خفي. وقرحه سبيلي. وأنا أتبع جداول الصوت. هزل سنمي من حاق حرصي. نفر النسا بفخذي لدأب سعيي. إلي أن رأيتها. باركة تحت قمر الأرق. في لون الغيوم العميق. تسامر الضني. وتحن من الريح. أرض لم يطمثها فأس ولا ناس. وكانت هي ناقة مظلومة مثلها. إذ عرقبوها. ولا وفوها حق النحر أو تركوها تحبل وترعي. ورحلوا. قلت: هذه الناقة وطني. وما تبقي لي من فزع مفازتي. وهزيع شتاتي. لكني لم أعرف كيف أطيبها. وأسكن خرير كربها. فكبوت عليها. أجرجر بخسارتي. تشممتها. وكانت تفوح كالضفاف. ولعقت جرحها. فتهدجت تحتي في عطف ورهف. واقشعر وبرها بزغب الحروف. رنت إلي بعينها ولهانة. يحف النخيل علي رمشها. فقلت: عيناك بحر من دماء. وذرف الفجر كسكون أنفاسها. وتدفقت من حولنا القنوات والغدران. ونبت من الأرض النجيل الجديد. يتثني في النسيم كخط الرقعة. فتلوعت لمرآة أحشائها. واندلعت بحسها القديم المكتوم. وحين انبثق مني الودق. وراح في السماء السديم. واجتاحت الأرض شهوة الريم. ناح سجعها الأصيل. والتمعت في نزيف الصباح. كالأياديم. وقامت تركض. حتي توارت بين أحراج الحلم.