كانت مكتبة البلدية الملاصقة لمدرستي - الإسكندرية الثانوية - أولي المكتبات العامة التي ترددت عليها. أقضي فترات الفسح. أو الحصص التي بلا مدرسين. في قاعتها الفسيحة المطلة علي شارع الرصافة. أقلب في البطاقات. أختار الكتاب الذي يشدني اسمه. أو اسم صاحبه. لا أطلب كتاباً بالتحديد. فالقراءة مطلبي إطلاقاً. أقرأ وأقرآ وأقرأ. في كل شيء. ولكل الأسماء. عشرات المجلات والكتب. وآلاف الصفحات. وملايين الكلمات والأسطر. تبهرنبي فكرة. فأعتنقها ثم تطويها قراءة اليوم التالي. لما كبرت. صرت أقبل علي القراءة وأنا أتمثل قول فرنسيس بيكون: "اقرأ لا لتعارض ولا لأتفند. اقرأ لا لتصدق. ولا لتأخذ الأمر قضية مسلمة. ولكن لكي تفكر وتزن الأمور". أحاول الآن اتذكر كتاباً فرض نفسه - في ذاكرتي - علي عشرات الكتب التي أتيح لي قراءتها - آنذاك - فلا أوافق. وإن كنت أذكر جيداً تلك الدقائق الخصبة. والمثمرة. التي تسبق تسلمي للكتاب الذي طلبته. أتصفح الدوريات المصفوفة علي حوامل خشبية في قاعة القراءة: الهلال والرسالة والثقافة والمقتطف والمختار وغيرها من زاد المعرفة. الموضوع الذي يستهويني اقرأه. فلا أتركه حتي أتمه. ربما أرجأت قراءة الكتاب الذي طلبته الي اليوم التالي. لاستكمال قراءة مواد احدي المجلات. في مقدمة كتابي "مصر في قصص كتابها المعاصرين" رويت لك حيرتي بين القراءات. تهزني افكار آخر كتاب قرأته. ولا أعانق فكرة واحدة ابداً. تعرفت إلي جزر مجهولة. وأسماء لم أكن طالعتها من قبل. ووجدت في المجلات الثقافية تنوعاً يرجوه ذلك الذي ينشد القراءة لذاتها. وأحببت الفلسفة والتاريخ والتراجم والسير وقصائد الشعراء. أما القصة. فقد احببتها - الأدق أني كنت أحببتها مطلقاً. صارت عالمي الحقيقي. قارئا وكاتباً - منذ بهرتني أيام طه حسين. فحاولت تقليدها في كتيب مطبوع. أشبه بمرثية لأمي الذي غيبها الموت قبل ان ابلغ العاشرة. ضمنته جملاً للمنفلوطي وتيمور والحكيم وعبدالحليم عبدالله والسباعي وغراب وآخرين - لم أكن تعرفت إلي نجيب محفوظ بعد - لكن بصمات "الأيام" كانت واضحة في التناول. وفي الجمل المطولة الني نقلتها - ببساطة - من كتاب طه حسين. وتعرفت الي يوسف كرم - للمرة الأولي - في مكتبة البلدية. قرأت له سلسلة كتبه في تاريخ الفلسفة الحديثة. شدتني بساطته وسهولة لغته. استطعت فهم كلماته بأيسر من فهمي للمواد الدراسية. ومع تنوع قراءاتي في الفلسفة. فإني لم أجد مثل هذا التعريف المبسط لماهية الفلسفة ودورها: "الفلسفة ليست مقصورة علي تقرير الواقع ودفع الشبهات عنه. وإنما غرضها الأكبر تفسير الواقع بالرجوع إلي مبادئه. اي وضع نظرية تستتبعه كنتيجة لأزمة. وتجلوه من كل جفاء". أسهم يوسف كرم في تعرفي الي تاريخ الفلسفة. المؤكد أني لم أكن أعرف تطور الفكر الفلسفي في العالم. لو لم اقرأ كتبه عن الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط. والفلسفة الحديثة. إلخ.. بل ان تناوله للفلسفة الوجودية أعفاني من التناول الخاطيء الذي كتبه - فيما بعد - أنيس منصور. احترامي للفلسفة الوجودية يجد بدايته في كتابات يوسف مكرم. الوجودية كمذهب فلسفي. العلمية والموضوعية والنأي عن الإثارة التي اتسمت بها كتابات تالية. ولم أكن أعرف عن حياة الرجل ولا ظروفه الخاصة اي شيء. حتي قرأت في الصحف عن انهيار المنزل الذي كان يقيم فيه بطنطا. وضياع ترجمات لمؤلفات فلاسفة الإغريق. وأصول كتاب كان قد انتهي من تأليفه عن الأخلاق. وشغلني - من يومها - الجانب الشخصي في يوسف مكرم. أسأل وأتابع واقرأ. حتي لحقته الوفاة يوم الخميس 28 مايو 1959. وكان في الرابعة والستين من عمره.