حاولت أن تكون لي هواية.. لا أعني هوايات الرياضة. فأنا أتابع مباريات كرة القدم وكرة السلة وكرة اليد والمصارعة ورفع الأثقال وغيرها. أضيف إلي مشاهدتي حفظي للقوانين.. حدود الصواب والخطأ. كيفية احتساب النقاط.. طالت جلساتي أمام عبدالفتاح الجمل. بيننا لعبة الطاولة. يعلمني النرد والقشاط والزهر والشيش بيش والشيش جوهار وخانة اليك.. أعرف ما ينبغي فعله. ألعب بالكاد دوراً كاملاً أُهْزَم فيه بسهولة. أو أظهر براعة تمد الوقت حتي يطوي الجمل طاولته في النهاية.. ثم تبينت أن الطاولة في ذاتها لعبة لا أحبها. وأن دهشة وربما إثارة التعرف. لا تلبث أن تذوي. ليحل بدلاً منها شعور بالرتابة والسأم وهدر الوقت.. حتي الكوتشينة. أجدت ألعابها المختلفة في محيط الأسرة والجيران: البصرة. الكومي. الشايب. شلح الكونكان. وغيرها.. وحين أردت إظهار براعتي أمام صديق. طالبني في هدوء مستخف أن أفعل مثلما فعل. فأعيد أوراقي إلي الطاولة. همست بالدهشة: أريد أن ألعب. لكنك لا تعرف اللعبة. أضاف في هدوئه المستخف: من يلعب الكوتشينة لا يكشف أوراقها أمام خصمه! جاوزت المشكلة مجرد عدم الفهم إلي ما يشبه الرفض.. ثمة ما لا أفهمه في داخلي يرفض. القراءة هواية وحيدة. أكتفي في ألعاب المقاهي بالفرجة. لا أتحول إلي المشاركة. ولو بمحاولة الفهم.. أنا أحب القراءة. تمثل لي تحريضاً علي الكتابة. حتي للقراءة هو المدخل لحب الكتابة. كتبت لأني قرأت. حاولت المحاكاة. ثم حاولت أن أعبر عن ذاتي علي مستوي التجربة والخبرة والتقنية. ولعل أخطر ما عانيته في محاولة القراءة الإيجابية. تصوري أن المعني الذي اكتشفه قد غاب عن الآخرين. يعلو صوتي ولو في داخل النفس بصيحة الاكتشاف. كان ذلك علي سبيل المثال هو الدافع الذي كتبت بتأثيره عن بداية الاشتراكية في حياتنا.. لم أكن قد قرأت بما يكفي لأعرف أن الاشتراكية تناولتها أقلام واجتهادات. قبل أن يكتب عنها صالح حمدي حماد في "مذكرات الأميرة يراعة".. ومقابلاً لرأي يحيي حقي بأن "زينب" هي الراوية المصرية الأولي. فقد اعتبرت أن رواية محمود طاهر حقي "عذراء دنشواي" تسبق رواية هيكل.. ومع أن حقي ثني علي رأيي في حديث منشور. فإن الخطأ الذي تنبهت إليه. أنه كان يجب قراءة عشرات الأعمال الروائية التي صدرت حوالي تلك الفترة. قبل أن نعلن أيها أسبق من حيث الفنية وتاريخ الصدور.. وأقنعتني الحماسة التي كتب بها السحار روايته "قلعة الأبطال" أن تناوله لشخصية الخديو إسماعيل هو الصواب. وما ذكره الرافعي في تأريخه لأعوام ما قبل الاحتلال البريطاني وما بعدها. هو الخطأ. وتبينت في قراءات موسعة. تالية أن عصر إسماعيل لم يكن سراً كله. ولم يكن خيراً كله أيضاً. ولعل نيات إسماعيل الصادقة ترجح كفة الخير في حياته. وظللت لفترة طويلة علي قناعة بأن الأغاني هو باعث نهضة مصر الحديثة. ذلك ما تعرفت إليه في كتابات لمعاصري الأفغاني. فضلاً عن كتابات تالية لمؤرخين معاصرين. ثم كانت ملاحظة يحيي حقي بعد صدور الكتاب: لا تلق بكل بيضك في سلة واحدة. الأفغاني يحتاج إلي قراءة أشد تعمقاً. ثم قرأت كتاب الأمريكية تيد نيكي عن حياة الأفغاني. وعرفت أن الأعوام الثمانية والعشرين الأولي من حياته. كان هو مصدرها. وانساقت طبيعة تلاميذه السلفية. أو النقلية. وراء ما كتب.. لم تسأل. ولم تناقش. ولا حاولت التوصل إلي الجذور والبدايات. نقلوا ما ذكره الرجل باعتباره الحقيقة المؤكدة. أما نيكي فقد تنقلت بين كل المدن التي أمضي فيها الأفغاني أوقاتاً من عمره. بصرف النظر عن طولها أم قصرها. وعادت باكتشافات مذهلة حول المدينة التي ولد فيها. ونشأته. وتعليمه. ومذهبه الديني. وغيرها. ولغياب كل تلك المعلومات. فقد أخضعنا سيرة الرجل لاجتهادات ساذجة. منها علي سبيل المثال أنه جلس وهو الشيعي إلي عمود في الأزهر يفقه في مسائل الدين! دلتني القراءة المتعمقة كذلك علي الرائدين المصريين العظيمين حسن العطار ورفاعه الطهطاوي. وأن الفكر المصري وربما العربي الحديث يبدأ بهما. لا أقل من تأثير الأفغاني في حياتنا السياسية منذ أواخر عهد إسماعيل إلي نهايات عهد توفيق. لكن التحفظ يفرض نفسه وفق وثائق وسير وتراجم بما لا يجعل النقلية مصدراً وحيداً. يملي علينا اجتهاداتنا.