الحروب التي دمرت يوغسلافيا إبان حقبة التسعينيات من القرن الماضي. دمرت أيضا صناعة السينما التي كانت تعتبر حسب شهادة رئيس لجنة السينما في الصرب الصناعة الثانية بعد بريطانيا من حيث كم الأفلام الهوليودية التي كانت تصور هناك وذلك في فترة سنوات الستينيات والسبعينيات. وبعد ذلك توقف المخرجون الأجانب عن الذهاب إلي هذه المنطقة باستثناء المخرج المشهور أمير كوستورتشا مخرج فيلم "تحت الأرض" الذي حصل علي جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان .1995 ومثل المخرج دانيس تانوفيتش مخرج "أرض أحد" الذي حاز علي جائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي عام ..2001 وكانت صناعة السينما المحلية في هذه المنطقة قد جفت بالكامل بفعل الحروب. تقول المخرجة الصربية التسجيلية المرموقة ميلا توراجيلتش "34 سنة" الحاصلة علي جائزة أحسن فيلم تسجيلي في مهرجان شيكاجو الدولي والذي يتناول العصر الذهبي لصناعة السينما اليوغسلافية في الفترة من 1950 1980 الفيلم بعنوان "Cinema Comunisto) تقول: من المحزن جدا ما فعلته عشر سنوات من العزلة إذ تم التضحية بجيل كامل.. لكن الآن تعتبر المنطقة إلي حد ما مستقرة وكذلك معظم البلدان التي كانت تضمها يوغسلافيا سابقا. والتي أصبح بعضها ضمن الاتحاد الأوروبي. لقد بدأت صناعة السينما في الازدهار تدريجيا ليست فقط من حيث الكم وأنا أيضا في المستوي الفني والموضوعي. ومن الطبيعي أن ينشغل بعض المخرجين في هذه المنطقة بكارثة الحرب وانعكاساتها وأن تقدم كل البلدان التي شاركت فيها ودفعت فاتورة باهظة من دماء وحياة شعوبها وجهة نظرها في هذه الحرب العبثية مثل فيلم "شهادات" Witneneses الكرواتي "2003" وفيلم المخرجة جاميلا زباتيك "جرابافيكا" البوسني "2006" الذي يتناول ما بعد الكارثة وتبعاتها. ولم تتوقف الأفلام بطبيعة الحال أمام موضوع الحرب علمًا بأن ما جري فيها يتسع لمئات الأعمال وسوف تبقي بالتأكيد علامة فارقة في مسيرة الصناعة السينمائية في البلقان وفي وجدان فنانيها. ومن الأفلام البارزة في فترة ما بعد الحرب فيلم من مقدونيا للمخرجة تيوفنا ستراجر بعنوان "المرأة التي مسحت دموعها" والذي عرض في مهرجانات عديدة عام .2012 وتظل المشكلة التي تواجه بلدان يوغسلافيا السابقة مسألة التمويل مثل معظم الصناعات الوطنية وأصبحت الطريقة الوحيدة أن يتجمعوا في إنتاج مشترك يوفر ميزانية معقولة لفيلم محترم وخصوصا وأن بعض هذه البلدان مثل البوسنة ومقدونيا ليس لديها بنية تحتية ولا تمتلك آلات ومعدات أو طاقم فنيين كبيرا في حين تمتلك صربيا آلات تصوير يمكن تأجيرها وتوفر كرواتيا أجهزة لعمل المونتاج وصربيا لديها النجوم وبعضهم يظهر في أفلام البوسنة.. باختصار لا مفر من الإنتاج المشترك ليس فقط بالنسبة لدول منطقة البلقان وإنما أيضا لكل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وهو ما نراه حاليا في معظم إنتاج دوله. والمؤكد انه وبرغم الدمار الذي أصاب الأرض والناس هناك طاقة طازجة ومتجددة تشهد عليها تجارب سينمائية تعرض حاليا في المهرجانات السينمائية ومنها مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الذي عرض ضمن إطار برنامج "مهرجان المهرجانات" فيلما من صربيا بعنوان "أرض محاصرة" "2015" للمخرج جوران رادوفالوفيتش "58 سنة" وهو ثاني أفلامه الروائية وأيضا في بانوراما الفيلم الأوروبي التي انتهت فعالياتها بالأمس السبت اختار القائمون علي هذا الحدث مجموعة من أفلام بلاد البلقان بمناسبة الذكري العشرين لنهاية حرب البوسنة والهرسك ومن ثم أعادت إلي الأذهان ذكري عشر سنوات طاحنة من الحروب دمرت منطقة يوغسلافيا وأتت علي الأخضر واليابس. ومن هذه التجارب المختارة نفس الفيلم الذي عرضه مهرجان القاهرة ولكن باسم "المخيم" وليس "أرض محاصرة" والعنوانان ترجمة للعنوان الأصلي "Enclave). وضمت المجموعة أيضا فيلما بعنوان "الشمس العالية" "2015" وهو عمل من إنتاج مشترك بين كرواتيا وصربيا وسلوفينيا للمخرج داليبور ماتانيتش. ويتناول ثلاث قصص حب مختلفة تدور في ثلاثة عقود من الزمان وتدور أحداثها في قريتين متجاورتين ومثقلتين بتاريخ مشحون بالكراهية العرقية. فالصراع الاثني والديني لا شك أحد الأمراض الخبيثة التي دمرت كثيراً من المناطق ومنها منطقة البلقان وما يجري في منطقتنا ليس بعيدا عن ذلك. من أفلام بلاد البلقان أيضا فيلم "تصبحين علي خير يا ساراييفو" من إنتاج البوسنة واسبانيا عام 2014 وهو عمل تسجيلي يستحضر قصة صحفي من البوسنة يعمل في صوت راديو ساراييفو" واستطاع من خلال صوته أن يوفر قدرا من الراحة والهروب إلي مستمعيه بعيدا عن وحشية الحرب. وفي إطار هذا البرنامج نفسه قدمت البانوراما فيلما بعنوان "الرجل الذي دافع عن جافريلو برنسب" والعنوان يشير إلي أحد أعضاء الحركة الثورية "ملادا بوسنا" في أكتوبر عام 1914 واتهمته السلطات النمساوية والمجرية بالخيانة العظمي. ومن كوسوفو عرضت فيلم بعنوان "ثلاثة نوافذ ومشنقة" للمخرج إيسا كوزيا من إنتاج .2014 والمؤكد أنها أفلام تعكس روحا وحساسية مختلفة ونابعة من تجارب إنسانية ذات تأثير عميق يدوم لفترات طويلة ويصيب ليس فقط الحياة اليومية وإنما العلاقات والقيم المستقرة وروح الإنسان نفسه وعلي نحو يدفع المرء إلي إعادة حساباته ومراجعة نظرته إلي العالم. وقد يكون من السابق لأوانه وجود موجة جديدة ثانية بنفس قوة التأثير الذي أحدثته الموجة الأولي المعروفة ب Novi Film التي حدثت في يوغسلافيا إبان الستينيات حيث كان من الممكن القول بأن ثمة جماعة من السينمائيين الموهوبين الشباب من أبناء المنطقة استطاعوا أن يحققوا تأثيرا عميقا علي دوائر السينما ليس فقط داخل يوغسلافيا وإنما أيضا خارجها. ورغم سنوات الحرب والدمار استطاعت منطقة البلقان أن تجذب مخرجين من خارج حدودها مثل النجمة إنجيلينا جولي التي أخرجت فيلمها الأول "في أرض الدم والعسل" عن الحرب البوسنية وأيضا النجم رالف فيين الذي أخرج فيلما بعنوان "كوريولانوس" ويعتبر أيضا أول أفلامه كمخرج. ومن النجمات انجذبن لسحر المنطقة بنيودلهي كروز التي صورت فيلما إيطاليا في البلقان بعنوان "مولود مرتين" فالمنطقة تمتلك الجبال المغطاة بالثلوج والشواطئ الساحلية الخلابة علي بحر الادرياتيك والطبيعة والتضاريس وقد شهدت عصورا ذهبية إبان حكم الزعيم اليوغسلافي "تيتو". الذي كان يدعم السينما ويؤمن بها كوسيلة دعائية واسعة الانتشار. من المحزن أن هذه المنطقة إبان فترة الستينيات كانت ساخنة سينمائيًا ولديها استديوهات مهمة وكبيرة في بلجراد وزغرب وإنتاج قوي مثل "الدائرة التاسعة" "1960" وفيلم "تيري" "Tri) 1965 وفيلم "معركة مزتقا" 1969 والثلاثة تم ترشيحهما لأوسكار أفضل فيلم أجنبي. وكذلك شهدت "أرض البلقان" تصوير أفلام أجنبية جيدة مثل فيلم "اختيار صوفي" و"عازف ناي علي السطح" و"المحاكمة" لاوسون ويلز. وقد لعب النجم ريتشارد بيرتون دور الزعيم "التيتو" في فيلم يتناول سيرة حياته "شوتجزكا" وزار كلنت ايستوود وبول براينر هذه المنطقة واستخدماها في تصوير بعض أفلامهما. ولكنها الحرب.. والتفكيك والتمزيع الوحشي فضلا عن الخراب النفسي والإنساني الذي تخلفه.. وأيضا الخراب الفني ومنها صناعة الفيلم.