فالمشرحة قبر مؤقت.. "ترانزيت" يستعد فيها الإنسان للنزول إلي التراب وآخر مكان في الدنيا بيستريح فيه. وهناك رجال خصهم الله لخدمة الموتي لحفظ حقوقهم إن كان هناك شك في حالة الوفاة من هؤلاء الرجال "عم حسن" عريف الحانوتي فعلامة الصلاة تنير وجهه والابتسامة لا تنقطع عنه ولا يتوقف عن خدمة كل الناس فهو حقا ملاك يطوف جنبات المشرحة لخدمة كل الناس ليملأها سعادة. دخلنا عليه وسط حالة من الصخب والصراخ لإحدي حالات الوفاة.. ومع ذلك قابلنا بترحاب شديد وقلت له أريد عمل معك داخل المشرحة فقال: علي جثتي وبعد أن وجدني في حالة إصرار تجاوب معي ودخلنا المشرحة وتعايشنا طوال اليوم وعاصرنا ما يمر به من معاناة إنه عم حسن الحانوتي. يبلغ من العمر 60 عاما مؤهل عالي سألناه عن سبب عمله بهذه المهنة أجاب مازحا: إذا تربي إنسان في عشة فراخ.. "هايكاكي" فما بالك بمن تربي في ثلاجة موتي أبا عن جد فطبيعي أن يصبح حانوتا. فهو المسئول عن مشرحة مستشفي الهرم يظل في حركة دائمة يتنقل من ثلاجة المشرحة إلي غرفة الغسل إلي غرفة مدير الطواريء لمعرفة الحالات الجديدة للبحث عن الكفن والاتصال بالمغسل وصولا لإحضار سيارة نقل الموتي. وبسؤاله عن ما يدور بداخل المشرحة أجاب: الميتين مش بيسكتوا خالص.. طول الليل حركة.. وواحدة تخرج تقولي درجة حرارة الثلاجة عالية.. اطفي النور عشان نعرف ننام.. واللي يقولي أنا كعان.. وخناق مع بعض طول الليل.. كدت اصعق من هذا الكلام.. وأفر منه هاربا.. لكنه لحقني وقال: تعالي أنا بهزر معاك.. العيش مع الأموات أرحم.. علي الأقل لا يتنازعون علي ورث أو منصب.. كله فان. ويقول إنه من الممكن تواجد أكثر من حالة في وقت واحد ويجب أن ينهي كل إجراءاتهم في نفس الوقت وحينما سألناه عن ما يضايقه في هذه المهنة أجاب: أكثر شيء هو افتقاد حياء الموت وتعظيم الميت أو تقديسه وتكريمه وافتقاد البعض للمباديء والسلوكيات التي تربينا عليها جميعا ففي بعض الأحيان يتنازعون الأهالي علي من يغسل الأول ومن الأولي بالغسل.. وأحيانا يتنازعون عن الورث في وقت تغسيل ذويهم وهذا راجع إلي انعدام الأخلاق أضف إلي ذلك أن بعض الأهالي يعتدون علينا بالألفاظ وعندما نقول لهم عاملونا بالحسني نجد من يقول لنا.. اعذروهم.. عندهم حالة وفاة ولكن يجب علينا أن نصبر عليهم تقديرا لظروفهم. نوع يثير الضجيج والتوتر في المستشفي حتي تكاد الأموات تستيقظ منهم نواح وصراخ ولطم وعويل بصوت عالي.. وبلا فائدة. وهذا ضعف إيمان وعذاب للمتوفي ومنهم من يصل إلي درجة الشرك الأصغر بسبب نطق بعض الكلمات الغريبة مثل "ليه كده يارب.. اشمعني هو.. هانعيش لمين بعدك.. سايبنا لمين؟ دون النظر إلي أنها إرادة الله وهو خالق كل شيء.. ناهيك عن حالات الإغماء والدوخة ومن يتعرض لأزمة سكر أو قلب أو ضغط.. فعلي سبيل المثال جاءني حالة ومع حالة الهرج والمرج توفي أحد أقاربه وقمت بإخراجهم معا.. فهل هذا معقول؟ أما النوع الثاني فهم إناس يحضرون مع المتوفي في حالة من السكون والهدوء وفي صمت وإيمان وتشعر بالسكنة بينهم.. وأقصي رد فعل هو البكاء بلا صوت وقراءة القرآن والترحم علي المتوفي في هدوء.. وهؤلاء أفضل إناس أتعامل معهم. بسؤاله عن الحالات التي تدخل المشرحة: كل حالة تختلف عن الأخري فالحادثة غير الوفاة الطبيعية غير الوفاة الجنائية والحادثة نوعان.. حادثة بسيطة وتعتبر مثل الوفاة الطبيعية والحادثة القوية التي يجب التعامل معها بحرص لما تحدثه من نزيف وأشلاء. وبالنسبة لطريقة غسل الميت: أول الأمر يجب أن تستر عورته ثم يرفع قليلا وتم عصر بطنه عصرا رقيقا ثم يلف الغاسل علي يده قماشة فينجيه بها ثم يوضئه وضوء الصلاة ثم يغسل رأسه ولحيته بماء وسدر ثم يغسل الجانب الأيمن ثم الأيسر. ثم يغسله كذلك مرة ثانية وثالثة ويمر في كل مرة يده علي بطنه فإن خرج منها شيء غسله وسد المحل بقطن أو نحوه فإن لم يستمسك فبوسائل الطب الحديثة كاللاصق ويعيد وضوءه وإن لم ينق بثلاثة زيد إلي خمس أو سبع ثم ينشفه بثوب ويجعل الطيب في مغابنه ومواضع سجوده. يضيف عم حسن إنه يقوم بالتعويض بالابتسامة عن ما يراه داخل المشرحة من مشاهد لا يتحملها إنسان ومناظر يشيب لها شعر الوليد مما يصيبني في بعض الأحيان بالإحباط والكبت. أما بخصوص الجثث المجهولة: إنه يتمني أن لا يجد في الثلاجة أي جثة مجهولة ويتم إخطاره بمعلومات المتوفي من قبل قسم الشرطة حتي يستطيع إخراجه منها وفي حالة إنهاء إجراءات المتوفي مجهول الهوية بالتصريح بالدفن سيكون التغسيل والتكفين والنقل والدفن علي حسابي الشخصي ولوجه الله. يطالب الإعلاميين بالفضائيات باحترام المهنة وأصلها حيث إنها من اسمي المهن علي مستوي العالم وهي مهنة إسلامية مع العلم أنها في دول العالم الأوروبي لها قدسيتها واحترامها حتي الميت نفسه له تكريمه واحترامه. ويلتقط أطراف الحديث خليل إبراهيم موظف بالمستشفي يتمني أن يتم افتتاح قناة تليفزيونية في يوم من الأيام ليجد قناة مخصصة للمفقودين ومجهولي الهوية والراقدين في المشرحة وثلاجات المستشفيات لأنه بالتأكيد لهم أهل يبحثون عنهم بشتي الطرق. ويستكمل عم حسن تأكيده علي الفكرة ولنبدأ بمحافظة القاهرة لأننا جميعا معرضون إلي أن نكون في يوم من الأيام مجهولي الهوية ونزلاء للمشرحة علما بأن جميع مستشفيات مصر بأكملها لا يمر عليها شهر إلا إذا كان هناك حالة وفاة مجهولة الهوية والمسئول عن دخول وخروج أي جثة من المشرحة مجهولة هي الشرطة والنيابة العامة. وعندما سألناه هل سبق له حمل أحد من المشاهير: إنه قام بحمل الكثير من الفنانين وعلي سبيل المثال وحش الشاشة فريد شوقي وسندريلا السينما سعاد حسني وماجدة الخطيب وفاتن فريد وإبراهيم يسري وحسين الشربيني والشاعر صلاح عبدالصبور وأخيرا نور الشريف وإبراهيم خان. وعن الجانب الأسري: إن لديه ثلاثة أبناء أكبرهم "محمد" محاسب في قصور الثقافة و"إسلام" دكتور علوم سياسية في روسيا و"إسراء" خريجة كلية حقوق جامعة القاهرة. أما بخصوص أم العيال علي حد قوله شايلاني شيل وتقوم بخدمتي ليل نهار أنا وأولادي ويتمني رضا ربنا عليه ثم رضاها عنه. وختاما لهذا الحوار سألته تريد أن تقول شيئاً: تصدق الموت راحة اليومين دول.. لأن اللي بيموت يجد من يحمله.. لكن يا عالم لما نموت احنا مين هايشيلنا؟ وتركناه وهو يستعد بإحضار كفن جديد ليلف به متوفي وتستمر حياة إنسان يعيش بين الموتي طوال العمر.