بدأ العام الهجري الجديد وفيه يتذكر المسلمون الرحلة الرائعة التي قام بها رسول الله صلي الله عليه وسلم وصحابته الكرام عندما هاجر من مكةالمكرمة إلي المدينةالمنورة إيذانا بتأسيس دولة الإسلام الحديثة التي أضاء نورها جنبات الأرض والتي تجسدت فيها معاني التضحية والصبر والإيثار في سبيل نشر الدعوة وإعلاء كلمة الحق. حول الدروس المستفادة من هذه الذكري العطرة يقول د. أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء إن بداية التقويم الهجري بالرحلة النبوية الشريفة له دلالات عظيمة في التاريخ الإسلامي حيث إن ذلك يؤكد علي عظمة هذه الرحلة وعطائها الممتد الذي يجب أن يستمد منه المسلمون الدروس والعبر مادام التقويم موجودا.. فيهجرون المعاصي ويتركون اللمم ويتجهون نحو بذل الغالي والنفيس من أجل إعلاء كلمة الحق. أشار إلي أن الله سبحانه وتعالي عندما أمر بانتقال الدعوة المحمدية من مكة للمدينة أراد أن يهيئ لها المناخ المناسب للانتشار وحتي تؤتي ثمارها المرجوة وتقام دولة إسلامية معاصرة لها مكانتها الدولية وتكون قادرة علي مواجهة العراقيل التي تواجهها في نشر الدعوة وتوجيه الناس نحو الصراط المستقيم. أكد د. هاشم أنه علي المسلمين أن يتخذوا من مواقف الرسول في رحلته الشريفة قدوة سواء في التخطيط والتدبير أو التحمل والصبر أو التضحية من أجل الدين الحنيف.. فالرسول عندما هاجر من مكة إلي المدينة كان يسعي لأن تصل رسالة التوحيد لكافة أقطار الأرض إلي جانب حماية المسلمين من تنكيل المشركين بهم وإقامة دولة علي أسس متينة قوامها التسامح والمحبة والإخاء. دروس عديدة الدكتور حمدي سعد من علماء الأوقاف يري أن هناك دروسا عديدة يجب أن يحرص المسلم علي استخلاصها من قصة الهجرة النبوية الشريفة التي تحتوي علي الكثير من العبر والعظات منها جواز الاستعانة بأهل الخبرة من غير المسلمين. وهذا ما فعله الرسول صلي الله عليه وسلم حينما استعان برجل مشرك يسمي "عبد الله بن أريقط" وسبب اختيار الرسول له علمه بخبايا الطرق في الصحراء.. كذلك رد الأمانات إلي أهلها من علامات الإيمان. ويتجلي هذا المعني واضحا في أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم لسيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بأن ينام في فراشه ليرد الأمانات إلي أهلها. فرغم أنهم يقفون علي بابه يريدون قتله إلا أنه لم يستحلِّ أموالهم وودائعهم وأماناتهم التي عنده.. كما أن حب الأوطان من أكبر وأجل علامات الإيمان. ويتضح ذلك حينما وقف الرسول مهاجرا ينظر إلي مكة مخاطبا إياها بقوله: ¢والله إنك لأحب بلاد الله إلي الله. وأحب بلاد الله إليَّ. ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت¢.. بالإضافة إلي وجوب التعمية علي الأعداء. فالرسول صلي الله عليه وسلم لما أراد الهجرة أمر سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن ينام في فراشه ليطمئن المشركون أنه لا يزال نائما. في نفس الوقت يكون الرسول صلي الله عليه وسلم قد قطع شوطا كبيرا في السير هو وصاحبه بعيدا عن أعينهم في مكة. كما يتضح نفس المعني في اختيار الرسول الاختباء في غار ثور في جنوبمكة مع أن طريق هجرته إلي المدينة شمال مكة. لكنه سلك طريقا غير الذي سيبحثون عنه فيه. وذلك دليل علي أن هذا فيه تعمية. وأن الحرب خدعة. يقول د. عبد الغفار هلال عميد كلية اللغة العربية الأسبق بجامعة الأزهر إن الهجرة لم تكن تغييرا في الموقف بل في الموقع فقط فالرسول صلي الله عليه وسلم لم يغير موقفه من الدعوة بل ازداد إصرارا علي نشرها وتقوية دعائمها إيمانا منه بخلودها وأنها خاتمة الرسالات التي ستبقي إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها وأنها للناس كافة. أشار إلي أن الرسول صلي الله عليه وسلم عندما هاجر إلي المدينة وضع دستورا للدولة الجديدة فيما عرف باسم وثيقة المدينة التي كانت تحتوي علي 54 بندا حقق فيها العدل والمواطنة والتسامح والمساواة وكفل حقوق المسلمين وغير المسلمين لتصبح بذلك الهجرة ليس مجرد انتقال مكاني فقط بقدر ما هي انتقال لعقول وقلوب المسلمين إلي مدارج الكمال وتحقيق العزة لهم. أكد أننا في حاجة ماسة في عصرنا الحالي لهذا التوافق الاجتماعي الذي حققه الرسول في دولته الجديدة لذلك علينا أن نستلهم فقه الهجرة النبوية ونوجهه لرفعة شأن البلاد وتحقيق مصلحة العباد وتوفير الأمن المجتمعي والعيش الكريم.. فننبذ الفرقة واستحلال الدم والمال والعرض والتشدد والغلو ونسعي لنشر مبادئ الإسلام الأصيلة كإحسان الظن وعدم الإضرار بالغير والعيش في سلام وأمان.. ولنبدأ بإجراء حوار مجتمعي مفتوح يقوم فيه القائمون علي الدعوة الإسلامية بتفنيد الشبهات وتبصير الناس بأمور دينهم الحقة. أكد الشيخ عبد الناصر بليح من علماء الأوقاف أنه في أول كل عام هجري يكثر الحديث عن هجرة الرسول صلي الله عليه وسلم في الخطب والمحاضرات ووسائل الإعلام. ولا يعدو حديثهم في الغالب أن يكون قصصاً تاريخياً يملؤون به الفراغ في أيام معدودات ثم يُترك وينسي دون أن يكون له أثر في النفوس أو قدوة في الأعمال والأخلاق. بل لا يعدو أن يكون ذلك عادة سنوية تتردد علي الألسنة دون فقه لمعني الهجرة وعمل بمدلولها. فليس المقصود التحدث عن الهجرة بأسلوب قصصي وسرد تاريخي. أو تقام لمناسبتها طقوس واحتفالات ثم تنسي ولا يكون لها أثر في النفوس أو تأثير في السلوك. فإن كثيراً ممن يتحدثون عن الهجرة علي رأس السنة لا يفقهون معناها ولا يعلمون بمقتضاها بل يخالفونها في سلوكهم وأعمالهم. يري أن الهدف من الهجرة هو تكوين دولة الإسلام وإيجاد موطئ قدم للدعوة لكي تنعم بالأمن والاستقرار حتي تستطيع أن تبني نفسها من الداخل وتنطلق لتحقيق أهدافها في الخارج إلي جانب كثرة المسلمين وإيجاد رأي عام مؤيد للدعوة لأن وجود ذلك يوفر عليها الكثير من الجهود ويذلل في طريقها الكثير من الصعاب بالإضافة إلي جمع الشمل واستكمال الهيكل التنظيمي للدعوة. فلم يكن الرسول القائد أن يظل في مكة. والأنصار والمهاجرون في المدينة؛ ولهذا هاجر رسول الله صلي الله عليه وسلم ليكون بين ظهراني أتباعه؛ لأن الجماعة بدون قائد كالجسد بلا رأس.