يستعد الحجاج بعد أيام قليلة لأداء الركن الأعظم لفريضة الحج المقدسة وهو الوقوف بعرفة ويعد هذا اليوم من الأيام المباركة التي كرمها الله سبحانه وتعالي وفضله علي كثير من أيامه وهو يوم الحج الأعظم كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "الحج عرفة".. ففي هذا اليوم العظيم أتم الله ورسوله الكريم عالمية الدين الإسلامي الحنيف.. وأعلنت فيه مبادئ حقوق الإنسان.. وقد أكد فيه المصطفي صلي الله عليه وسلم أن من صام هذا اليوم يغفر الله له ذنوب سنتين سنة ماضية وأخري مقبلة.. وعلي المسلمين اغتنام هذا اليوم حتي يغفر الله لهم ذنوبهم بالتوبة النصوح والإكثار من الدعاء وصلة الأرحام. حول فضل هذا اليوم علي المسلمين والدروس المستفادة منه يقول د. عبد الغفار هلال عميد كلية اللغة العربية الأسبق بجامعة الأزهر: يوم عرفة هو يوم مشهود وهو ركن الحج الأعظم كما قال صلي الله عليه وسلم: "الحج عرفة" نري المسلمين الحجاج وهم يقفون علي هذا المكان المقدس في جميع أرجائه وبجوار جبل الرحمة الموجود علي عرفات.. هو الذي وقف عنده رسول الله صلي الله عليه وسلم وقال: "وقفت هنا وعرفة كلها موقف".. وفي يوم عرفة تذل أنف الشيطان ويحتقر احتقارا شديدا لأنه حاول أن يصرف المسلمين عن دينهم فعصوا أمره وأطاعوا أمر الله.. حاول أن يمنعهم عن الاجتماع في هذا المكان الطاهر فاجتمعوا رغم أنفه ولذلك قال الرسول الكريم: "ما رؤي الشيطان أصغر ولا أحقر ولا أغيظ منه من يوم عرفة" فهو في هذا اليوم حقير لم يستطع أن يتسلط علي المسلمين ثم هو أيضا يغتاظ منهم لأنهم أطاعوا الله ويقولون: "لبيك اللهم لبيك" وهو مطرود من رحمة الله. كما أنه في يوم عرفة يتوجه المسلمون الحجاج بالنداء علي هذه البقعة المباركة.. وأيضا في كل مكان من أرض الله بالتكبير والتهليل قائلين: "لبيك اللهم لبيك". وفي هذا اليوم يحظي حجاج بيت الله الحرام بالألفة والمودة والرحمة وبنزول المغفرة عليهم وبالعتق من النار كما قال صلي الله عليه وسلم: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة".. ومعني هذا الحديث الشريف أن الله تعالي يعتق من أمة محمد صلي الله عليه وسلم في هذا اليوم من النار عددا كبيرا لا يحصي.. وهذا يدعو الحاج إلي بيت الله الحرام أن يذهب إلي عرفات من أول النهار لينال هذا العتق وتكفير الذنوب.. يصلي الظهر والعصر جمعاً وقصراً في مسجد نمرة وراء الإمام ويتفرغ للدعاء والتلبية ومناجاة الحق سبحانه.. ويشهد هذا المشهد العظيم الذي يباهي الله به ملائكته إذ يقول الحق سبحانه وتعالي للملائكة في هذا اليوم: "يا ملائكتي هؤلاء عبادي أتوني شعثا غبرا أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم". ولذلك يجب علي المسلمين في كل مكان أن يهتموا بهذا اليوم ويتطلعوا لمغفرة الله تعالي لهم.. وأن يصوموه فالمسلم إذا صام هذا اليوم حظي من الحق سبحانه علي مغفرة عظيمة إذ كما ورد في بعض الأحاديث أن الله تعالي يغفر لمن صام يوم عرفة ذنوب سنتين سنة ماضية وأخري مقبلة.. فالذي لا يصوم هذا اليوم يحرم نفسه من هذا الفضل الرباني. يوم عظيم يقول د. عبد الحكم الصعيدي الأستاذ بجامعة الأزهر: يوم عرفة خالد في تاريخ الزمن لأنه هو الذي حدد فيه الرسول صلي الله عليه وسلم حقوق الإنسان.. ولو أن الناس قرأوا خطبة الوداع التي ألقاها رسول الله صلي الله عليه وسلم في يوم عرفة لعرفوا أن الإسلام هو الذي وضع أعظم منهج لحقوق الإنسان. أوضح أن الإنسانية ما عرفت من قبل ومن بعد مثل هذه الحقوق التي وضعها خير البشر.. لقد أعلن أن الإنسان حر وأن الناس سواسية وأنه لا فضل لعربي علي أعجمي إلا بالتقوي.. كما وضع حقوق النساء وبينها وأخبر الإنسانية أن المرأة شقيقة الرجل وأنه أخذها بكلمة الله وأن خير الناس خيرهم لنسائهم.. وما أكرم المرأة إلا كريم وما أهانها إلا لئيم.. وأهدر الربا لأنه نظام اقتصادي مخرب لكل أسس النظم الاقتصادية التي يقوم عليها نظام المجتمع.. وأمر بعدم أخذ الثأر وترك الأمر للحاكم حتي لا تكون فوضي.. كما قرر حق الإنسان في طلب العلم والحصول عليه.. وقرر حق الملكية وأنه لا يجوز الاعتداء علي حقوق الآخرين تحت أي مسمي.. ووضع مبدأ الشوري والديمقراطية الصحيحة إلي آخر ما هناك من حقوق بينها رسول الله صلي الله عليه وسلم في خطبة الوداع. كما أن الله تبارك وتعالي ختم رسالة الإسلام وبين أنها اكتملت ولا نقص فيها ولا خلل وأن هذه الشريعة صالحة لكل زمان ومكان لذلك نزل قوله تعالي: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا".. إذن يوم عرفة يوم مبارك أقسم الله به في القرآن حيث قال سبحانه: "والفجر وليال عشر والشفع والوتر" فقد قال المفسرون إن الفجر هو فجر أول أيام شهر ذي الحجة وليال عشر هي الليالي الأولي من شهر ذي الحجة والشفع هو يوم عيد الأضحي والوتر هو يوم عرفة. لذلك يستحب صيامه لغير الحجاج لأن صيامه يكفر سنة ماضية وسنة مقبلة. لكل هذه الأسباب يجدر بالمسلمين أن يتنبهوا لهذا اليوم العظيم وأن ينشروا بينهم الرحمة وأن كل واحد من المسلمين عليه أن يصل رحمه ويعفو عمن ظلمه ويحسن إلي من أساء إليه ويعطي من حرمه ويصل من قطعه حتي نكون مجتمع الأخوة والتراحم والتسامح ليشملنا الله برحمته ورضوانه. اجتماع الأرواح يقول الداعية الدكتور مبروك عطية الأستاذ بجامعة الأزهر: إن في يوم عرفة تجتمع الأرواح وقد تزكت بالتوبة والإحرام والطواف والسعي وتتجه إلي الله في ضراعة وتدعوه سبحانه في خشوع طالبة منه الرحمة العامة والشاملة والرحمة الخاصة المنجية.. تجتمع الأرواح وقد تطهرت واستقبلت القبلة وأكثرت من الاستغفار والذكر والدعاء لنفسها ولغيرها قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "خير الدعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو علي كل شيء قدير". ويوم عرفة هو يوم الرحمة والعتق من النار وما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله تبارك وتعالي إلي السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول: "انظروا إلي عبادي جاءوني شعثا غبرا جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي.. فلم ير يوم أكثر عتقا من النار من يوم عرفة".. وعرفة مؤتمر جامع لا تعرف البشرية له نظيرا يحضره سنويا ملايين الحجاج يأتون من كل فج عميق من جميع أنحاء العالم متطهرين ملبين يقفون في صعيد واحد يدعون ربا واحدا يسألونه الرحمة وغفران الذنوب في موقف تتجلي فيه المساواة وتتجسد فيه الاشتراكية الحقة بكل معانيها.. إنه التآلف الذي لا تعرف البشرية له مثيلا في غير الإسلام.. التآلف بين طوائف الإسلام المختلفة بين الزنوج والبربر والصيني والأمريكي والروسي والفرسي والترك والعرب.. الخ أغنياء كانوا أم فقراء لا فوارق من جنس أو لون أو قومية فإسلامهم لا يعترف بفاصل بين أفراد البشر وهم في مؤتمرهم هذا وقربهم من الله قد أقلعوا عن الماضي المشوب بالإثم والباطل وجددوا العهد مع الله علي استئناف حياة نظيفة مستقيمة يتطلعون إلي مستقبل أفضل للأمة الإسلامية فيوثقون الصلات ويدعمون العلاقات ويبحثون خير دينهم ودنياهم وقد جمعهم رب واحد وكتاب واحد ونبي واحد وقبلة واحدة في خير أمة أخرجت للناس.. إذن فالوقوف بعرفة في الحج فريضة من لم يدركها فاته الحج كله وهذا هو سر قوله صلي الله عليه وسلم: "الحج عرفة".