* لقد غاب عن الكثير من التيارات المتشددة والتكفيرية النظر في صحة أقوالهم ومنطلقاتهم فضلا عن النظر إلي المآلات. فاستعمال الحقوق دائما يكون في نطاق المشروعية وبعيدًا عن المضارة وسوء الاستخدام ودون التركيز علي طبيعة الدوافع النفسية والبواعث الإرادية التي نتجت عن تلك الأفعال وهذه الممارسات. وقد تضافرت أدلة الشرع الشريف علي وجوب الاحتياط في تكفير المسلم. قال تعالي: "وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَي إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا" النساء: 94. فحذرنا من التسرع في التكفير. وأمرنا بالتثبت في حق من ظهرت منه علامات الإسلام. ولو كان في موطن ليس أهله بمسلمين. وعَنْ أَبِي ذَرّي رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ " .. ومَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوَّ اللَّهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ". وقد تتابعت كلمات علماء الأمة المعتبرين علي تقرير هذا الأمر. فقال أبو حامد الغزالي رضي الله عنه في كتابه "الاقتصاد": "إن هذه مسألة فقهية. أعني الحكم بتكفير من قال قولًا وتعاطي فعلًا. فإنها تارة تكون معلومة بأدلة سمعية وتارة تكون مظنونة بالاجتهاد. ولا مجال لدليل العقل فيها البتة. ولا يمكن تفهيم هذا إلا بعد تفهيم قولنا : إن هذا الشخص كافر والكشف عن معناه. وذلك يرجع إلي الإخبار عن مستقره في الدار الآخرة وأنه في النار علي التأبيد. وعن حكمه في الدنيا وأنه لا يجب القصاص بقتله ولا يُمَكَّن من نكاح مسلمة ولا عصمة لدمه وماله. إلي غير ذلك من الأحكام". وقال أيضا في فيصل التفرقة: "الكفر حكم شرعي. كالرق والحرية مثلا؛ إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار. ومدركه شرعي فيدرَك إما بنص وإما بقياس علي منصوص". وقال أيضا: "قد ظن بعض الناس أن مأخذ التكفير من العقل لا من الشرع وأن الجاهل بالله كافر. والعارف به مؤمن. فيقال له: الحكم بإباحة الدم والخلود في النار. حكم شرعي لا معني له قبل ورود الشرع". وقال الشهرستاني: "وللأصوليين خلاف في تكفير أهل الأهواء مع قطعهم بأن المصيب واحد بعينه؛ لأن التكفير حكم شرعي. والتصويب حكم عقلي". ولذا كانت قضية إنزال حكم الكفر خاصة بالمفتين والقضاة إلا أن العلماء لم يَفُتْهُم أن ينبهوا علي الاحتياط في هذا الشأن؛ لخطورته. وعليه فلا ينبغي التسرع في تكفير المسلم متي أمكن حمل كلامه علي محمل حسن. وما يُشَكُّ في أنه كفر لا يحكم به. فإن المسلم لا يخرجه عن الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه؛ إذ الإسلام الثابت بيقين لا يزول بالشك. بل إن إطلاق مثل هذه الأحكام علي عامة المسلمين وأئمتهم يعود بالسلب مباشرة علي الإسلام. يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني مبينًا صفة إسلام العامة. عقيدة وعبادة وسلوكًا: "غاية توحيدهم التزام ما وجدوا عليه أئمتهم في عقائد الدين والعض عليها بالنواجذ. والمواظبة علي وظائف العبادات وملازمة الأذكار بقلوب سليمة طاهرة عن الشبه والشكوك. فتراهم لا يحيدون عما اعتقدوه ولو قُطِّعوا إربا إربا. فهنيئا لهم هذا اليقين. وطوبي لهم هذه السلامة . فإذا كُفِّر هؤلاء وهم السواد الأعظم وجمهور الأمة فما هذا إلا طَيُّ بِسَاط الإسلام وهَدْمُ منار الدين والله المستعان". صفوة القول أن جماعات العنف لو سلكوا مسلك العلم والعدل. وتحلَّوْا بأدب الخلاف. وتجردوا من صراع السياسة وأهواء التحيز. والتزموا البرهان والدليل المجرد. لكانت الدعوة إلي السلم مثمرة. ومحققة لمقاصدها النبيلة. حتي تبعث الأمة من كبوتها. ويتحقق لأبنائها القوة والكرامة. فتنتشر الرسالة المحمدية الرحيمة قولا وعملا في العالمين. ولكن "إنما يستجيب الذين يسمعون"!