حين جنحت الشمس نحو المغيب.. وأوشك الليل أن يسكب دموعه السوداء علي الكون ليسدل ستاراً من الظلمة.. حين هذا الوقت العجيب بين النهار والليل أحسست بمرارة الفقدان.. كأن جزءاً من روحي يفارقني.. وحبيباً لي يختطف من بين يدي. لا شيء في هذه الدنيا أصعب من فراق الأحبة.. خصوصاً إذا كانت فرصتك في الحياة آخذة في التقلص والنفاد.. تضيق بك وعليك رويداً رويداً مع مرور الأيام.. بحيث يصبح من العسير أن تجد بديلا عن هؤلاء الذين فارقوك.. هنا يكون فراق الأحبة مثل طلوع الروح من الجسد.. كلما فارقت حبيباً أو فارقك فقدت جزءاً من روحك. وقد جربت فراق الأحبة كثيراً.. وجربت الصبر عليه فاحتملت أحياناً ولم أحتمل أحياناً أخري.. وحين لم أحتمل كان ذلك يجلب لي مزيداً من التعاسة ويصيبني بالهزال.. فالفراق موجع للقلب وللبدن معاً.. موجع للقلب الذي يتألم ويحن ويتمزق فتتضاءل كفاءته.. ومن ثم يتوجع البدن وتضعف فيه قوي المناعة.. ولذلك صار معروفاً عند الكافة أن الحزن خطر علي حياة الإنسان. أما المرات التي احتملت فيها فكانت تلك التي أعانني الله عليها برحمة منه وقوة.. وألهمني من الحكمة ما يريح قلبي وعقلي.. وفي قول رسولنا الكريم - صلي الله عليه وسلم - "أحبب من شئت فإنك مفارقه" عظة وعبرة.. وتلخيص رائع لفقه الحياة.. وكل من يدرك هذه الحقيقة ويستوعبها حين يحب وحين يفارق سوف يستريح ويحتمل. الفراق قضاء الله وقدره.. وسنة من سننه في الكون.. تصطدمنا نعم.. وتدفعنا إلي رحلة البحث الطويلة.. البحث عن الحقيقة.. عن المجهول.. عن ذاتنا التي تندعن أي تعريف وتفلت من أي محاولة للإمساك بها.. نبحث عن سر الوجود.. عن مبرر لوجودنا ولوجود الأشياء من حولنا.. من أين نبدأ وإلي أين نسير وإلي ما ننتهي.. نبحث في نفوسنا ونفوس الآخرين.. نبحث في الحياة وفي التاريخ: كيف نلتقي.. كيف نحب.. كيف نفارق.. كيف يأتينا الفرح.. وكيف يأتينا الحزن. رحلة شاقة عسيرة ندفع ثمنها من دمنا ومن عمرنا في مواجهة الثالوث الأبدي المقدر: الزمان.. الجسد.. ثم الموت.. الموت الذي الذي يحول دون الانطلاق إلي الديمومة.. إلي الخلود.. إلي الأفق الرحيب حيث اللامحدود واللامنتهي.. حيث لا بداية ولا وسط ولا نهاية. نبحث وننظر إلي الأيام بعين عاجزة وفكر محدود.. وقد تغرينا الأشياء ويستخف بنا الفكر.. وندعي مالا طاقة لنا علي ادعائه.. ونهلل طرباً أن هاهي ذي الحقيقة ملء أعيننا.. ولكن سرعان ما يدرك هذا المخلوق المتمرد الذي لا يعرف القناعة والرضا أنه فيما يدعي واهم.. وفيما يظن مخدوع.. سرعان ما يدرك أن عقله محدود.. وأن فكره محدود.. وأن استيعابه لا يزيد عن مثقال ذرة من قدرة الخالق.. سريعاً ما يدرك أنه ضعيف.. عاجز.. نسبي.. وإلي المطلق يحن.. وإلي القوي يتجه.. وإلي القوة العظمي يسلم أمره.. ويعلن استسلامه وخشوعه إلي الحقيقة الخالدة الأبدية المطلقة.. إلي الله جل جلاله. فراق الأحبة.. لحظة من لحظات الصفاء الإنساني حيث لا غاية.. لا حقد.. لا كراهية.. لا كبرياء.. لحظة يصفو فيها القلب ويتجه خاشعاً بين يدي الرحمن.. بدعوة من يد ضارعة وقلب خاشع طالبة التوبة والغفران.. وعسي أن يكون أصلنا السفلي من ماء وطين هو الشفاعة لنا عند الله وتذرف العين أدمعاً هي بقية باقية من النفس التي استهلكها الزمن ومزقتها الأيام. رحم الله أحباءنا الذين فارقونا.. أحياء وأمواتاً.