منذ عشر سنوات تقريبًا جاء المخرج أتوم أجويان المصري المولد. الكندي الجنسية الأرميني الأصل إلي القاهرة مع فيلمه "آرارات". العمل الذي وجه انتباهنا إلي جريمة كبري ارتكبتها تركيا في حق الأتراك الأرمن عام ..1915 إبادة جماعية حصدت ثلثي المواطنين الأرمن البالغ عددهم وقتئذ المليون ونصف المليون نسمة. حاولت تركيا ومازالت إنكار هذه المذبحة المشينة التي يمر مائة عام علي ارتكابها "2015".. ولكن جرائم التاريخ لا تسقط بالتقادم ودماء ما يقرب من ألف برئ اغتيلوا غدرا قضية باقية تؤرق أبناء أرمينيا مهما تفرقت بهم السبل وتؤرق الضمير الإنساني. وأجويان "1960" يعتبر من أهم المخرجين الكنديين. وأتذكر أن وجوده بالقاهرة ضمن ضيوف مهرجان القاهرة السينمائي الدولي فتح الباب أمام جمهور لم يكن يعرف هذه المجزرة البشعة. ومع التواصل الدافئ بين مخرج كبير ولد في مصر وعاش فترة من طفولته فيها أثيرت مناقشات حول جريمة حاولت الدولة التركية أن تمزق أوراق التاريخ التي دونت وقائعها. ولكن الفيلم الذي تشارك في بطولته الممثلة ارسينية خانجان وهي زوجة المخرج ومثله من أصل أرمني والاثنان يعيشان في كندا يخلد الجريمة ويفتح مجالا لمناقشتها. وفي لقاء تليفزيوني مع اجويان يقول: انه عندما حكي لأطفاله عما سجري في هذه الواقعة كانوا شغوفين بمعرفة ما إذا كانت تركيا اعتذرت عن هذه الجريمة؟ والإجابة يقدمها فيلم "ارارات" الذي لا يثير مشاعر التأثر فقط. وإنما يطرح في نفس الوقت أسئلة مربكة لدي المشاهد. وقد حرص أتوم أجويان أن يقدم مستويات متعددة للجريمة التاريخية ومن خلال وجهات نظر عديدة. وبناء متداخل يرتكز علي ثلاثة محاور أساسية: إلقاء الضوء علي بشاعة الجريمة واستخدام مقاطع من أفلام تسجيلية قديمة حول الحادثة ودمجها داخل البناء السردي للفيلم من أجل أن يدعم القصة الحديثة بالمعلومات التاريخية ثم الاستعانة بشخصيات أخري لتربطهم علاقات بالموضوع الأصلي إلي جانب من يلعبون الأدوار الأساسية في حبكة الفيلم. ومن هذه الشخصيات أستاذ ومحاضر في تاريخ الفن وله دراسات أكاديمية حول الفنان التشكيلي الأرمني اشيل جوركي كانت والدته ضمن الضحايا الأتراك في المذبحة وأرملة رجل حاول أن يغتال مسئولا تركيا إلي جانب آخرين مرتبطين بشكل أو بآخر بهذه المذبحة. واستخدم أتوم أجويان طريقة "الفيلم داخل الفيلم" استعان بالأجزاء المصورة ومقاطع من أعمال تسجيلية تصور وحشية الأتراك ضد الأرمن ومنها مشهد لسيدة أرمينية يتم دفنها حية إلي جانب تفاصيل مصورة تدعم نفس هذا الجانب. حبكة الفيلم مركبة ومتعددة الخيوط ومتعددة الوسائط تعكس مدي حرص المخرج علي إبراز الحقيقة بشتي الوسائل التعبيرية مثل اللوحات المرسومة والذاكرة الحية والروائية وشخصيات عديدة عاشت المحنة عبر تجارب مختلفة. من الواضح أنه عمل خرج من القلق.. من أعماق فنان عاش المحنة إن لم يكن واقعيا فبالقطع من خلال معايشته لها وإصراره علي إعادة إنتاجها والتذكير بها وإيصالها إلي جمهور أوسع ربما لم يسمع عنها. وفي الفيلم يستعين أتوم أجويان بكلمات الزعيم النازي هتلر وهو يناقش خططه في ارتكاب مذبحة جماعية إذ يقول: ومن ذا الذي يتذكر عملية إبادة الأرمن؟ بعد مرور مائة عام علي الجريمة وبعد اثني عشر عاما من فيلم "أرارات" "2002" يقوم مخرج ألماني من أصل تركي بإعادة إنتاج الحدث نفسه في فيلم بعنوان "CUT) بمعني "قطع" للمخرج فاتح اكين "1973" الذي اختارته إدارة مهرجان القاهرة الدولي في دورته السادسة والثلاثين "9 - 18 نوفمبر" لعرضه في الافتتاح والفيلم سبق عرضه في مهرجان فينيسيا ضمن المسابقة الرسمية في يوليه الماضي دون أن يحصل علي جائزة. ويضاف عمل اكين إلي الأعمال المحدودة جدا التي تناولت هذا الجريمة.. ولكنه يفتح بالنسبة لنا مجالا واسعا للنظر إلي تجربة فنية تعالج موضوع الإبادة الجماعية من منظور مخرج من أصول تركية. وتجعلنا نعود إلي فيلم "آرارات" لعقد مقارنة ليست علي المستوي الفني وإنما من زاوية التناول. ماذا يقول مخرج مهم ومتمكن مثل "اكين" عن جريمة ارتكبتها بلاده وتحاول جاهدة إنكارها.. وما يمكن أن نتوقعه من ردود فعل الأتراك إزاء فيلم يشارك في "فينيسيا" وينتقل إلي "القاهرة" أمام جمهور مشحون بالمشاعر السلبية إزاء "أردوغان" وجرائمه في حق هذا البلد. وفي توقيت تطل فيه تركيا كإحدي القوي الشريرة في المنطقة. لا أريد أن أقلب الكلام عن فيلم أتوق فعلا إلي رؤيته إلي كلام في السياسة ولا أعرف إن كان المهرجان قدم الدعوة للمخرج حتي يتسني للجمهور منافشة تجربته.. في كل الأحوال وحسب المكتوب في الفيلم "قطع" "CUT) ينتمي إلي نوعية "أفلام الطريق" "road Film). ويحكي أحداث رحلة مضنية عن أب مكلوم يبحث عن بنتيه التوأم والمخرج حسب كلام الناقد - جاي ويسبرج - في محلة "فارايتي" يجاهد بقوة من أجل عمل فيلم يتسق مع الشكل الكلاسيكي الهوليودي ولكنه يفتقد مستوي الأبهة برغم من أماكن التصوير المثيرة. نسبة كبيرة من عشاق المخرج سوق "تهرش رأسها" فضلا عن أن تسويق الفيلم سيمثل إشكالية وقد يجد صعوبة. لن أسترسل في تعليق الناقد الذي يؤكد من خلال استعراضه للفيلم اه مخيب للآمال وأن فرص نجاحه ليست كبيرة. ولكن هذا لا ينفي أهمية التجربة وضرورة أن نتعامل معها بعيدا عن التيار السائد لأنها تجربة فنية خاصة ولا أعتقد أن - فاتح اكين - وفي نيته أن يشارك بالفيلم في مهرجانات دولية يتوقع لعمله الإشكالي والمثير للجدل نجاحا أو أن يكون عملا جماهيريا أو مرحبا به في بلاده تركيا.. أو أن فرصة نجاحه حتي في ألمانيا يمكن أن تكون مضمونة مثل أفلامه السابقة "head on). يقول الناقد نفسه: ان اكين حريص علي أن يكون فيلمه "معرفيا" يقدم المعرفة ولا يتطلع للوصول في سباق سخيف بين ألام تعالج موضوع الإبادة الجماعية فمن العناوين الثانوية للفيلم معلومة تشرح تحالف الامبراطورية العثمانية مع الألمان في الحرب العالمية الأولي في حين أن أقلية تعيش تحت الحكم التركي تتحول بين يوم وليلة إلي أعداء: فلماذا حدث ذلك؟؟ ولماذا لم يقدم الفيلم أي نبذة تبرر لماذا الأقلية الأرمينية بصفة خاصة أصبحت - زورا - تمثل تهديدا. ان فيلم "CUT) تحول إلي درس في التاريخ لتلاميذ المدارس الابتدائية يقدم وقائع مرسلة دون فواصل والرأي للناقد نفسه "جاي ويسبرج". أيا ما كان حول الفيلم ضمن المؤكد انه يمثل في هذه الفترة تحديدا وبعد مرور قرن علي الواقعة البشعة التي تنكرها تركيا إضاءة مطلوبة علي علاقة السينما بالتاريخ. مثلما يعيد إنتاج حقبة ارتبطت بالامبراطورية العثمانية التي يحاول اردوغان واخوانه أن يعيدوا بعثها.