أمتعتني جداً السيرة الذاتية للدكتور عبدالوهاب المسيري.. أنجزت قراءتها في يوم وليلة.. لكنها أرهقتني جداً عندما فكرت في تقديمها في هذه الزاوية الضيقة.. وذلك بسبب اللغة والمصطلحات والتفاصيل الكثيرة والحكايات التي تضمنها كتابه "رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر.. سيرة غير ذاتية غير موضوعية". والدكتور عبدالوهاب المسيري واحد من أبرز مفكرينا في الثلاثين عاماً الماضية.. قدم للمكتبة العربية العديد من الكتب في السياسة وعلم الاجتماع والأدب.. لكن أعظم إنجازاته موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية التي وضعها وهو في أمريكا. وقد اشتهر د.المسيري بتحولاته الفكرية المتعددة.. فقد بدأ حياته في دمنهور وسط أسرة متدينة ميسورة ومحافظة فحفظ القرآن الكريم وجوده.. ثم تحول وهو في الجامعة إلي الفكر الماركسي المادي.. وبعد مرحلة طويلة من البحث والتجريب والنضج العقلي عاد مرة أخري إلي الجذور.. عاد كما قال من ضيق المادة وسذاجتها إلي رحابة الدين ورحمته وإنسانيته.. عاد بحرية واقتناع كاملين. وفي عام 1963 سافر إلي الولاياتالمتحدة طلباً للعلم والديمقراطية والحرية لكنه بعد الخبرة والدراسة والمقارنة بين مجتمع دمنهور والمجتمع الأمريكي الذي يصفه بأنه سوق كبير بلا رحمة ولا إنسانية اكتشف أن وطنه رغم كل ما يعانيه هو صاحب الحضارة الإنسانية العميقة أما النظام المهيمن علي المجتمع الأمريكي فإنه يجهض فيه القيم الإنسانية ويخاطب أحط ما في الإنسان. ولأن الكتاب القيم يتنقل بين هذه التحولات بالشرح والتفصيل فسوف أكتفي منه ببعض الحكايات التي أوردها وتحمل دلالات ومعاني عميقة.. فهي تقول ما يريد أن يقوله.. ہ الحكاية الأولي: كانت الأجيال في دمنهور متقاربة في مفاهيمها.. كلنا كنا نسمع الأغاني نفسها.. ونلبس الملابس نفسها.. ونتحرك في الحيز نفسه.. إذ كانت هناك مجموعة من القيم الأخلاقية والمعرفية والجمالية نؤمن بها جميعاً.. لا فرق في ذلك بين غني وفقير أو كبير وصغير.. لم يكن هناك رداء شبابي أو أغان شبابية أو أماكن يرتادها الشباب وحدهم.. فكل الأجيال كانت متقاربة بعكس ما يحدث الآن.. فالفجوة بين الأجيال آخذة في الاتساع.. والصراع بينها يزداد حدة.. أما في الغرب فهناك تطاحن وحشي وفردية مطلقة.. حتي إن الشاب الذي يصل إلي سن 18 عاماً عليه أن يجد منزلاً مستقلاً لنفسه إذ إن عائلته ترفض الاستمرار في الإنفاق عليه.. وعلي الإنسان الذي يصل إلي سن الستين أن يجد ملجأ للعجزة لأن أبناءه لن يسألوا عنه إلا مرة واحدة كل عام.. وحينما أفكر في أننا سنصل إلي هذه الدرجة من التقدم يصيبني الهلع. ہ الحكاية الثانية: يروي د.المسيري قصة امرأة أمريكية أرادت الخروج مساء فاستدعت أمها لتجلس مع طفلتها.. وعندما عادت الابنة فوجئ بها تخرج دفتر الشيكات وتعطي لأمها شيكاً بعشرة دولارات أجراً لها.. ويقول: هنا أدركت معني هذه الواقعة.. فالأم ليست في حاجة إلي عشرة دولارات ولكن ما تم هنا هو شعائر التعاقد التي لا يفلت منها شيء في أمريكا بما في ذلك علاقة البنت بأمها. وأكمل غداً إن شاء الله..