أسعدني أن يقتحم الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر القضايا المثارة علي الساحة السياسية والفكرية.. وأن يشارك بعلمه وأدبه في الجدل الدائر حالياً حول علاقة الدين والدولة.. فلا يعزل الأزهر عن الواقع.. ولا يترك الحوارات الحيوية بين يدي من لا علم لهم ولا قبول بين الناس.. أو من يروعون الآخرين بتطرفهم وعجرفتهم. وحسناً فعل فضيلة شيخ الأزهر أن أعد ورقة علمية متكاملة تؤكد علي أن الدولة في الإسلام دولة مدنية.. وأن ليس هناك تعارض بين الإسلام والديمقراطية الحديثة بكل ما تحمله من آليات التعددية الحزبية وتداول السلطة والانتخابات الحرة النزيهة وقبول الآخر المختلف دينيا وثقافياً من أجل التعايش المشترك في إطار المساواة الكاملة وفق مبدأ المواطنة. والحقيقة أن مفهوم الدولة في الإسلام يختلف تماما عن مفهوم الدولة الدينية "الثيوقراطية" التي عرفتها المجتمعات الأوروبية في القرون الوسطي.. والتي تقوم علي أساس أن الحاكم ظل الله في الأرض.. وأنه يحكم بوحي مباشر من الله.. وهو ما عُرف باسم نظرية "حق التفويض الإلهي". تاريخ الإسلام لم يعرف هذا النوع من الحكم.. ولم تكن دولته دولة دينية بهذا المعني.. ولم تكن للحاكم فيه قداسة إلهية.. وإن كان قد شهد في بعض عصور التخلف من خرج من الحكام علي الاستقامة وادعي لنفسه شيئاً من القداسة .. لكن هذا بالطبع كان شذوذا وخروجاً عن المألوف.. وهو شذوذ يؤكد النظرية ولا يقاس عليه.. فلا وحي بعد النبي صلي الله عليه وسلم. من هنا نقول: إن من الخطأ الخلط بين الإسلام والدولة الدينية "الثيوقراطية".. فالإسلام يؤكد أن الدولة مدنية تقوم علي أساس الاختيار والبيعة والشوري.. والحاكم لابد أن يحظي برضا الشعب وقبوله.. وهو مسئول أمام الأمة.. ويحق لكل فرد في الرعية أن ينصح الحاكم ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر.. ويقومه إن رأي فيه اعوجاجا. والحاكم في الدولة الإسلامية المدنية مقيد غير مطلق.. فهناك شريعة تحكمه.. وقيم توجهه.. وأحكام تقيده.. وعلاقته بالمحكومين علاقة تعاقدية.. إن أخل بها فلا طاعة له عليهم.. وقد أقر القرآن الكريم بأن أمر المؤمنين شوري بينهم.. وأمر الله رسوله بأن يشاور أصحابه في الأمر.. والأمر هنا يعني كل ما يهم الأمة في قضايا السياسة والسلم والحرب. وقد قال أبوبكر الصديق للمسلمين بعد أن بايعوه أول خليفة لنبيهم: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم.. فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.. إن أحسنت فأعينوني وأن أسأت فقوموني". والحاكم في الإسلام ليس وكيلا لله بل هو وكيل الشعب.. ووكيل الأمة.. هي التي تختاره بإرادتها.. وهي التي تراقب أداءه.. وهي التي تعزله إن أرادت.. وقد قال عمر بن الخطاب: "إن رأيتم فيَّ اعوجاجاً فقوموني" فرد عليه أحدهم قائلاً: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناك بسيوفنا.. فقال عمر: "الحمد لله أن جعل من أمة محمد من يقوّم اعوجاج عمر". وقال عمر بن عبدالعزيز: "إنما أنا واحد منكم غير أن الله جعلني أثقلكم حِملاً".. وقال صلاح الدين الأيوبي: إنما أنا عبد الشرع وشرطيه.. أي أن مهمته حراسة الشرع وتطبيقه. وكان من أول ما فعل الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم بعد أن دخل المدينة مهاجراً وأرسي قواعد المسجد أن أصدر "الصحيفة" التي تضمن حقوق أهل المدينة جميعا من مسلمين ويهود ونصاري ومشركين علي أساس المواطنة.. وعلقها علي جذوع النخل ليراها الناس جميعا. وفي المفهوم الإسلامي فإن الأمة تشرع لنفسها من القوانين ما يكفل لها تسيير سبل الحياة .. بما يضمن العدالة لكل أبنائها بصرف النظر عن دينهم وأعراقهم وألوانهم وجنسهم وألسنتهم في إطار احترام كرامة الإنسان من حيث أنه إنسان كرّمه الله تعالي.. وفي هذا الاتجاه متسع للتشريع في مناطق واسعة من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. وكلها تراعي جلب المصالح ودرء المفاسد ورعاية حاجات الناس فيما ليس فيه نص واضح قطعي الدلالة قطعي الثبوت. ولحسن الحظ فإن كثيرا من القوانين التفصيلية المعاصرة لا تتنافي مع الشريعة في مقاصدها الكلية.. ولا أحكامها الجزئية.. لأنها تتوخي جلب المنفعة ودفع المضرة ورعاية الأعراف السائدة .. وذلك مثل قوانين المرور والملاحة والطيران والعمل والنقابات والصحة وغير ذلك مما يدخل إسلاميا في باب "السياسة الشرعية". هذا هو مفهوم الإسلام للدولة.. بعيداً عن أية مفاهيم متطرفة تحاول أن تدخل علي الإسلام ما ليس فيه.. وتربطه بالدولة الدينية الغريبة عليه في الشكل والمضمون.