حينما يختفي صوت العقل.. وتغيب الموضوعية.. وتتداخل الأصوات الزاعقة.. وتتحول ساحات الوطن إلي حالة من التشنج والمزايدات.. حينئذ يمسي الكاتب بين خيارين: إما أن يتحول إلي بوق للمديح والتفاخر وركوب الموجة.. ويفقد بذلك وظيفته الاجتماعية ومبرر وجوده الوطني أو أن يفرض علي نفسه الصمت الكظيم بما يعنيه ذلك من اغتراب ونفي اختياري للذات. وسط هذه الحالة يشير د.جمال حمدان في موسوعته "شخصية مصر" إلي أن "الكاتب الغيور علي أمه الكبري -مصر- هو وحده الذي لصالحها ينقدها ويصارحها بلا مداراة.. فصديقك من صدقك لا من صدَّقك.. بل إن مصر لن تتغير ولن تتطور ولن تخرج من حمأتها التاريخية إلا حين يأتيها المفكر الصادق مع نفسه.. الجريء مع جمهوره.. فيواجهه علنا بعيوبه.. دون وجل أو دجل". في المقابل.. فقد يكون أعدي أعداء مصر -هكذا يقول- هم بعض المصريين المتعصبين.. الذين يدفنون رءوسهم في الرمال ويتغافلون عمدا عن عيوبنا.. زاعمين باستمرار أن أم الدنيا بخير وأن ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن.. متشنجين علي كل مصري ينقد مصر لصالحها ومتهمينه بتعنت أو بتخابث بعدم الولاء أو الخيانة. لابد أن يتمايز الكاتب "المفكر" عن السياسي الذي يبيع الوطنية للمواطن.. ولا يملك إلا أن يقدم الأوهام الوطنية والمخدرات التاريخية للجماهير في الوقت الذي يكون فيه هو أكثر من يسوم الشعب الهوان والمذلة والقهر الجسدي أو المعنوي. ومنذ الفراعنة كانت القاعدة تقريبا عند كل حاكم أن الشعب يعيش في عصره أمجد وأروع فترة في تاريخه وحياته بلا استثناء وأنه هو -ولا أحد غيره- الذي يجسد كبرياء مصر وشموخها.. هو الدولة وهو الوطن.. وكل نقد موجه إليه إنما هو موجه إلي مصر والعكس صحيح.. وبالتالي فهو خيانة وطنية.. خيانة عظمي. وعند هذه النقطة يتوقف د.جمال حمدان في كتابه "شخصية مصر" ليبدي علامات هائلة من الدهشة حينما يتبادل الشعب المضلل مع فرعونه المستبد الغاشم أنخاب خداع النفس.. الأول يتغافل عن عيوبه الجسيمة بل ويتغني بها.. والثاني يلهيه ويخدره عن استبداده وقهره بأحاديث المجد والوطنية والأصالة.. إلخ. ويدخل الكتاب الانتهازيون إلي هذا الديالوج المدمر فيعمدون إلي تمجيد كل سلبياتنا ومثالبنا.. ويزينون لنا العبودية.. إلا أن الناقد المثقف المفكر الوطني يجد نفسه وسط هذا الزيف محاصرًا بين موجة الترويع الفكري والجسدي من ناحية والشعب المقهور المغلوب علي أمره من ناحية أخري.. وربما حدثته نفسه في هذا الحصار بأن "عيوب هذا الشعب وأمراضه ومآسيه ومصيره هي جميعا عقابه الطبيعي المستحق". ويحذر د.جمال حمدان من أن النعرة الوطنية -الشوفينية- تخفي وراءها مركب نقص يقود الوطن إلي التجمد والتخلف ويعوق حركته نحو التغيير للأفضل.. وينبهنا إلي أن كتابه ليس لمن يحبون أو يرجون خداع النفس.. ليس كتابا في النرجسية أو عبادة الذات الوطنية.. وليس قطعة من الغزل العلمي ولا موسوعة في فضائل مصر.. وإنما هو تشريح علمي موضوعي يشخص نقاط القوة والضعف.. وبغير هذا لا يكون النقد الذاتي.. وكما أنه لا حياء في الدين فلا حساسية في العلم.. وكما أن الوطن فوق الجميع فإنه أيضا ملك للجميع. وأكمل غدا إن شاء الله.