إن التلاعب باللغة وألفاظها من أهم أسباب الفساد الذي ملأ الأرض. وضج منه جميع الصالحين. بل والعقلاء من كل دين ومذهب. فإن التلاعب باللغة يفتح علينا أبواب شر كبيرة. حيث يُستحل الحرام. ويُحرِّم الحلال. ويُأمر بالمنكر وينهي عن المعروف. وذلك كله عكس مراد الله من خلقه. يقول النبي صلي الله عليه وآله وسلم : "إن ناساً من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها" أخرجه الحاكم في المستدرك. فرسول الله صلي الله عليه وسلم في ذلك البيان النبوي لا يريد أن يشير إلي تلك الكبيرة وهي شرب الخمر فحسب. بل إنه يتكلم عن تلك الصفة التي ستظهر في آخر الزمان وهي التلاعب بالألفاظ. والتي يترتب عليها تضييع الأحكام الشرعية. فيستحل الناس الذنوب والكبائر. فالخمر تسمي مشروبات روحية مثلاً. والزنا يسمي حرية الحياة الخاصة. أو حرية الممارسة الجنسية. ولذلك يظن الناس أن أحكام الله عز وجل لا تنطبق علي تلك المسميات الجديدة. رغم أن الحقائق ثابتة. إن الأساس الفكري الذي نؤكد عليه دائماً هو ضرورة أن تقوم اللغة بوظائفها التي تبرر وجودها أصلاً. فإن للغة ثلاث وظائف أساسية. أولي تلك الوظائف هي: الوضع بمعني جعل الألفاظ بإزاء المعاني. فهو أمر لابد منه حتي يتم التفاهم بين البشر. وثاني تلك الوظائف هي الاستعمال: وذلك أن المتكلم يستخدم تلك الأصوات المشتملة علي حروف لينقل المعاني التي قامت في ذهنه إلي السامع. وهنا تأتي الوظيفة الثالثة والأخيرة وهي الحمل: والتي تعني حمل تلك الألفاظ علي مقابلها من المعاني التي سبق للواضع أن تواضع عليها. وقد قرر العلماء عبارة موجزة توضح ما ذكرناه. فقالوا: "إن الاستعمال من صفات المتكلم. والحمل من صفات السامع. والوضع قبلهما". وينبغي أن يسود ذلك الأساس الفكري في التعامل مع اللغة ليواجه أساساً فكرياً آخر أصل الفساد عن طريق التلاعب بالألفاظ. ولعل ما ظهر من مدارس ما بعد الحداثة الفكرية تأصيلاً لذلك الأساس الذي يقرر التلاعب بالألفاظ. فتري تلك المدارس أن عملية الوضع ينبغي أن تكون مرنة لا تتقيد بالموروث. ولا يقتصر هذا المفهوم علي اتساع اللغة طبقاً لزيادة مساحة عالم الأشياء والأشخاص. والأحداث. والأفكار. والنظم. وهو الاتساع المتفق عليه نظراً وعملاً. بل مقصودهم تغيير دلالات الألفاظ بحيث تزداد مساحة الحرية الفكرية. وتري بعض المدارس المتطرفة من مدارس ما بعد الحداثة أن هناك خمسة أشياء يجب أن تزول حتي يستطيع الفكر البشري أن يبدع. وأن ينطلق بدون أي عائق وهذه الخمسة هي: الثقافة. والدين. والأسرة. والدولة. واللغة. ورفع سلطان الثقافة السائدة أمر سيؤدي إلي الاتجاه نحو "النسبية المطلقة" التي تدعو هذه المدارس الفكرية لتبنيها. والتحرر من سلطان الدين قد تم من قبل في الحضارة الغربية. والأسرة أصبحت تطلق عندهم علي أي اثنين.. فلم يعد المعني زوج. وزوجة. وابن وابنة. أب. أم. عائلة. فهم يعدون هذا من المعاني المعجمية أي التي وجدناها في المعجم اللغوي. ومن هذا المدخل أصبح الشذوذ الجنسي الذي لعن عند عقلاء البشر ومن الأديان كلها من حقوق الإنسان. ورفع سلطان الدولة واستبدل بها الجمعيات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني هو الأمر الذي يحتاج إلي تغيير النظام القانوني والاجتماعي. بل قوانين الفكر والنموذج المعرفي والإطار المرجعي. أما إنهاء سلطان اللغة فهو أمر مفزع حقاً. فنحن لا نهاجم السلوك البشري في هذه الذنوب "الزنا والشذوذ وشرب الخمر" فحسب. فإن ذلك السلوك يمكن أن يزول بالتوبة والرجوع إلي الله إذا كان الأساس العقائدي والفكري سليماً. وإنما نهاجم في الأساس ذلك الأساس الفكري والفلسفي الذي مهَّد لانتشار ذلك الفساد العريض. ومن أمثلة ذلك التلاعب إطلاق لفظة الحرية والتي تدل أول ما أطلقت علي إنهاء العبودية والرق بين الإنسان وأخيه الإنسان. أصبحت كلمة الحرية تعني التفلت من كل شيء. وكأن هذا التفلت الذي يدعون إليه مبرر الإبداع والفن والجمال. والحقيقة أننا خرجنا عن حدود الجمال وحدود الفن إلي بعض سمادير السكرانين. والسمادير هي هذه الخيالات المريضة التي يراها السكران أثناء سكره. فهل لهذه الحالة من إفاقة قبل ضياع المسلمين ومن ثم البشرية بأسرها؟