نفس المكان الاتوبيس مازال واقفا.. كان يتأبط حقيبته الرمادية.. ينتظر حتي يفرغ النازلون فهو لم يعد قادرا علي المقاومة بجسمه النحيف تلك الأجسام التي تبدو من نظارته المقعرة كأنها قطعان من الفيلة الأستوائية.. تأفف في ضجر وهو يتمتم ساخطا: زحام.. زحام.. أ .أ .ف..!! سارينة الأتوبيس تخزم أذنيه.. يقفز متقززا.. يدفعه رجل آدم في اشمئزاز وهو يأمره بالإسراع حتي يغادر المكان.. أومأ إليه برأسه وقد انتشرت ابتسامة صفراء بين طرقات وجهه الذي حفرته الشيخوخة.. استطاع أخيرا أن يضع رجليه في الأتوبيس والأخري علي السلم وهو متكالب علي الحقيبة التي ترقد بداخلها رواتب الموظفين.. أخرج من جيبه ساعته "ماركة الترماي" لينظر فيها.. أشعل سيجارة.. شحط نفسا عميقا.. احتبسه في صدره قليلا.. يلتحف وجهه المترهل سديم من الدخان الأسود.. أخذ يسعل كثيرا حتي تهاوت قواه.. الأتوبيس يشبه علبة سردين.. تصفح الوجوه التي لم تتغير كل صباح.. نفس المساحيق التي هي من الدرجة الرابعة.. تذكر انه لم يدفع إيجار الشقة منذ ثلاثة أشهر.. والبقال ألمح له البارحة عن الحساب.. شحط نفسا أعمق من السيجارة. أما المعلم سيد رده خاسئاً عندما رفض أن يقطع له نصف كيلو لحمة علي النوتة.. ابتسم وهو يتكيء علي الباب واثقا من حقيبته التي احتواها تحت جناحيه اللذين يتصببان عرقا.. يلقي بالسيجارة تحت حذائه المتآكل.. المحطة الجاية للنازل..؟! نزل كثيرون.. وصعد أكثر.. وهو كما هو مرابطه في مكانه.. يخشي أن يتأخر.. ويحذر الزحام.. يقع بصره علي فتاة حسناء تكاد العيون تلتهمها.. الكمساري يقترب منه. اشتراك.. عم بسيوني سوف يفرك يديه حتي يعد ورائي راتبه.. هو لا يتهمني ولا يشك في ذمتي لا سمح الله ولكن يخشي أنسي لحكم السن.. أما الأستاذ "محمد" فسوف يأتيني كعادته.. يغمزني بسيجارة وكوب الشاي الساخن.. حتي أعد له راتبه قبل زملائه.. معذور يريد أن يتزوج.. خطيبته هددته في آخر لقاء بينهما.. "إما الشقة وإما ترد له دبلته".. فعمتها معها عريس "متريش قوي".. ومستعجل كمان.. آه.. معذور يا أستاذ "محمد" انت وامثالك الدنيا غلا وبلا والفقر بينهش في أخلاق الناس.." إيه الوقاحة وقلة الأدب دي..؟!!! يعم الركاب فوضي وهرج وصياح.. وهو مازال مرابطا في مكانه.. يصفر الكمساري.. يقف الأتوبيس فينزل بعض الركاب ويصعد آخرون.. لمح الفتاه وقد أجلسها شاب آخر بجواره تجلس وهي تصلح من فستانها قائلة: قلة أدب.. أحد الصبيان يحمل فوق رأسه حزمة من الجرائد والمجلات يزعق. مد صوته الحار اقرأ الحوادث.. الإرهاب.. جريمة الاغتصاب الأخيرة!! كان يقلب عينيه بين المانشيتات الملونة "إسرائيل تعتدي علي جنوب لبنان" الكروات والصرب يحتلون.. الأممالمتحدة تقول.. العراق و.. مصر وإعدام 47 إسلاميا متطرفا في الجزائر... يهمس شاب في أذنه... أخبار الرياضة لو سمحت..!!!! اشارت إليه إحدي السيدات بالجلوس في المقعد المجاور. يجلس في حذر.. أخرج علبة السجاير.. أخذ نفسا عميقا احتبسه في رئته. وكانت الذكريات تتقاذف في رأسه.. عشرون عاما مضت.. أخرج منديله البنفسجي ليجفف عرقه المتساقط.