تعالت الهتافات من ثوار 25 يناير .. ضد الصحافة القومية وقياداتها.. اتهموهم بأنهم لا ينقلون الحقائق إلي الجماهير ولا يعبرون عن الواقع.. كل ما تنقله هذه الصحافة القومية.. هو كلام عن المسئولين كبارهم وصغارهم.. يمدحونهم ويثنون علي أعمالهم ويشيدون بإنجازاتهم حتي لو كانت وهمية.. والحقيقة ان الثوار كان معهم كل الحق في هذه الاتهامات .. لأن الصحف والاصدارات القومية تعتمد في تمويلها علي الحكومة.. إذا حدث لديها أي أزمة مالية.. وبالتالي ينفذون ما يطلب منهم.. والمفروض في العمل الصحفي.. ان يتمتع العاملون فيه بحرية مطلقة وبمصداقية كاملة.. وبحيادية وشفافية لا ينقلون إلا الحقائق المجردة ولا يوجهون إلا نقدا موضوعيا بعيدا عن الاتهامات والابتزاز وهذا يتطلب أن تكون "عين الصحافة مليانة" حتي لا ينظر إلي الحصول علي عمولة اعلان أو قبول أي هدية.. وخلال الستين سنة الماضية مرت الصحافة القومية بثلاث مراحل.. المرحلة الأولي في عصر جمال عبدالناصر.. والذي يمكن أن نطلق عليه "صحافة القمع" فقد كانت الصحف خاضعة تماما للنظام. لا تكتب إلا ما يملي عليها. ولم تكن هناك أي حرية صحفية.. بل كان الرقيب بقلمه الأحمر هو المسيطر علي صفحات الصحيفة أو الاصدار ولا يسمح بنشر إلا ما يوافق عليه النظام بل ووصل الأمر إلي حد الاعتقال والحبس إذا كان ما يكتبه الصحفي لا يعجب أصحاب السلطة .. بما في ذلك الكتابة بإسقاط أو همز ولمز. ومضي عهد عبدالناصر وجاء عصر السادات وتغيرت أوضاع الصحافة بعض الشيء وبعد انتهاء حرب 1973 وبداية عهد الانفتاح والانفراج السياسي.. استطاع أنور السادات أن يجعل الصحافة تابعة له.. تسبح بحمده.. خصوصا وقد أدرك الرئيس ان مرتبات الصحفيين هزيلة وأوعز إلي عبدالمنعم الصاوي وكان نقيبا للصحفيين أن يعد كادرا خاصا لمرتبات الصحفيين. وبالفعل تم زيادة المرتبات.. ووقع عبء هذه الزيادة علي خزانة الدولة. وعندما جاء الرئيس السابق.. أعلن ان الصحافة حرة مع إلغاء الرقابة.. ولكن الواقع أن هذه الرقابة انتقلت إلي سلطات رئيس التحرير الذي يوافق علي نشر ما يري أو لا ينشر.. وله أن يغيّر ويستبدل بعض الفقرات.. وكانت هناك تعليمات يبلغ بها رئيس التحرير بالنسبة لنشر الأخبار والتحقيقات وبالتالي يسمح بنشر ما يراه موافقا لسياسة الدولة أو لا يسمح. ورغم كل ما قيل عن حرية الصحافة في ظل النظام السابق إلا ان الواقع يقرر أن الصحافة تعرضت "للرشوة" في بعض إصداراتها.. وقد تمثلت هذه الرشوة في مساحات اعلانية يمنحها الوزراء والمسئولون لمندوبي الصحف لديهم.. وبالتالي قيل عنها انها صحافة مأجورة تنشر ما يريده الوزير حتي لو كان كلاما غير صحيح.. وبالتالي لم تعد الصحف تنشر أي نقد أو تنقل الأخبار التي لا يريد الوزير نشرها.. وهنا غابت المصداقية.. ولم تعد الصحف تنشر الحقائق وتحولت إلي مجرد بوق للدعاية للوزير أو المسئول الذي دفع ثمن ما ينشر. وعلي هذا كان هذا الكم الهائل من أخبار الفساد ووثائقه التي سمعنا عنها بعد ثورة 25 يناير.. وبالتأكيد فإن الصحف بقياداتها الجديدة لن تكون كما كانت قبل 25 يناير .. وبالتأكيد أيضا ستنتقل هذه الصحف من مجرد صفحات مدفوعة الثمن لحساب الوزراء والمسئولين إلي صفحات تنشر الحقائق مجردة بدون مجاملة.. وبحياد مطلق حتي تنكمش حالات الفساد ويعرف الناس كل ما يدور حولهم. ولكن هذا يتطلب أن يتم النظر إلي هذه الأجور الهزيلة التي يتقاضاها الصحفيون. وأن يتم تعديلها بما يتوافق مع طبيعة عملهم التي أشبهها بعمل القاضي.. الذي يكون مجردا عند حكمه. والصحفي عند نقل الحقائق.. ونفس الحال فإن الصحفيين في حاجة إلي فتح المجال أمامهم لكي ينطلقوا.. في أعمالهم ونحن في عصر يتحتم فيه تحقيق العدالة والشفافية.