في عام 1989 فاز مخرج أمريكي في السادسة والعشرين بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الدولي. وكان يعتبر وقتئذ أصغر مخرج يفوز بالجائزة الكبري في أكبر مهرجان دولي للسينما. الفيلم الفائز حمل عنواناً لافتاً "جنس وأكاذيب وشريط فيديو" والمخرج هو ستيفن سودربرج من مواليد يناير 1963 و"ستيفن" ليس فقط مخرجاً وإنما كاتب سيناريو ومنتج ومصور سينمائي ومونتير ورسام. وبعد نجاح أول أفلامه وحصوله علي الجائزة ذاع صيته وحقق شهرة عالمية ونجاحاً مادياً ونقدياً واسعاً. فقد أحدث هذا الفيلم نفسه دفعة قوية في مجال السينما الأمريكية المستقلة ابان الثمانينات من القرن الماضي. واعتبره النقاد تجربة جسورة ومبتكرة من حيث الشكل والمضمون. وفي الفترة من 1989 إلي 2013 اخرج ستيفن سودربرج 26 فيلماً منها ثمانية أفلام في الخمس سنوات الأخيرة. حققت نجاحاً وبعضها حصل علي الأوسكار مثل فيلم "ترافيك" Traffic بمعني "تجارة المخدرات" وفيلم "ايرين بروكفتش" الذي نالت جوليا روبرتس جائزة الأوسكار لأحسن تمثيل عن دورها فيه.. ومن أفلامه التي حققت نجاحاً وامتيازاً علي المستويين الجماهيري والنقدي الأجزاء الثلاثة من فيلم "أوشن". "اوشن 11. اوشن 12. اوشن 13". فإمكانيات هذا المخرج جعلته بمثابة وحدة كاملة فنية أو "طاقم فني" متكامل.. فهو يستعير اسم والده كمصور سينمائي. ويمضي باسم أمه كمونتير.. والقراءة السريعة لمسيرة حياته تؤكد امتلاكه للموهبة والابداع منذ صغر سنه وبفضل البيئة التربوية والفنية والثقافية التي ساهمت في نمو هذه الموهبة وتطورها أصبح اسمه "ماركة" بارزة في السينما الأمريكية. آثار جانبية في الأسبوع الماضي شاهدت في القاهرة لنفس هذا المخرج آخر أفلامه "آثار جانبية" "side effect" الذي أعلن قبل عرضه التجاري الأول بأنه سيكون فيلمه الأخير علي الشاشة وقد أثار هذا الإعلان دهشة وتساؤلاً كبيراً. كيف لفنان في سن الخمسين يقرر الاعتزال وهو في قمة تألقه فهذا الفيلم المعروض في القاهرة برغم عدم نجاحه جماهيرياً كأي فيلم أمريكي مهم يعرض هنا خصوصاً في الأيام الأخيرة يحقق نجاحاً كبيراً في أوروبا وأمريكا. وينال تقديراً كبيراً من قبل النقاد هناك. واعترف شخصياً أن فيلم "آثار جانبية" عمل معقد نسبياً وبأنني لم أمسك بكل مفاتيحه من المشاهدة الأولي. فهو من أعمال الجريمة التي تشبه جرائم المرحلة التي نعيش فيها. مركبة ومتداخلة ومليئة بالغموض ومن حيث الأسلوب يذكرنا ببعض أفلام هتشكوك وبالأخص فيلم "سيكو" انه عمل مثير. ومشحون بالتوتر خصوصاً النصف الثاني. النصف الأولي يمضي في سلاسة وإن كانت سلاسة مخادعة إذ سرعان ما نصل إلي حالة من الغموض المربك. وإلي حزمة من التساؤلات مثل: من ضّلل من؟ ومن المخادع وأين الخلل في هذه الخيوط المتشابكة من العلاقات التي تتطور أمامنا. جميع الشخصيات مخادعة ومراوغة وملتوية فعلاً والحبكة تنطوي علي أكثر من عقدة. والحلول تحتمل أكثر من مسار. ولا تنتهي الأحداث إلي يقين مشبع. الفيلم دراما سيكلوجية تكشف عن أهمية ونفاذ دور المؤسسات المرتبطة بهذا المجال مثل الطب النفسي وشركات الأدوية العالمية ويشير إلي حجم انتشار الأوضاع النفسية والاحتياج المتواصل إلي العقاقير التي لا تكف عن انتاجها هذه المؤسسات التي تضاهي صناعة السلاح من حيث حجم الأرباح التي تدرها. وحجم التداول لمنتجاتها. بطلة الفيلم "اميلي" زوجة شابة عمرها 28 سنة وموظفة في احدي الشركات وتعاني من توتر حاد. زوجها "مارتن" دخل السجن وعلي وشك الخروج بعد أمضي مدة العقوبة وهاهي تندفع لاستقباله عند خروجه في صحبة والدته. في البداية نسمعها تتحاور مع احدي زميلاتها في العمل حول دواء يستخدم لعلاج الاكتئاب ويجعل الحياة أكثر مرونة. باقي الأبطال وهم: الدكتور "جوناثان بانكس" "جودلو" طبيب نفسي مشهور. وطبيبة نفسية أيضاً "كاتزين زيتا جونز" الأول يتقاضي 50 ألف دولار مقابل الترويج لعقار جديد يعالج مرض الاكتئاب. ويجدد النشاط ويفتح الشهية الجنسية والثانية يتضح انها علي علاقة مثالية مع الزوجة الشابة. والاثنتان ضالعتان في جريمة القتل بهدف التخلص من الزوج الذي خرج من السجن لتوه. وجريمة القتل تذكرنا بما جري لبطلة فيلم "سيكو".. ولكن في "آثار جانبية" تقوم الزوجة بغرس السكين في ظهر الزوج وهي في عز الأمان والانسجام. وبعد ذلك تتدعي دور المريضة التي تتواري بحنكة شديدة وراء المرضي النفسي الذي من بين اعراضه "السير اثناء النوم". وأهمية هذا الفيلم بالنسبة لي شخصياً انه يتناول من خلال سيناريو قوي ومن دون مباشرة جانباً من حياة شريحة اجتماعية ويشير إلي دور شركات الأدوية التي لا تكف عن ابتكار العقاقير التي تعالج الاكتئاب والتوتر والأمراض النفسية المنتشرة وبعض هذه الأدوية يعالج المريضة أو يمنحها تأثيراً ملموساً ولكنه قد يؤدي إلي آثار جانبية مدمرة مثل العقار الذي استخدمته بطلة الفيلم. ومن خلال هذا السيناريو الذي كتبه سكوت بيرنز أحد الكتاب المنفصلين بالنسبة للمخرج يرسم صورة النماذج من الأطباء الذين لا يبالون بغير الحياة المريحة التي يجلبها الثراء. دون النظر إلي أشكال "الفخاخ" التي يقد ينجر إليها المريض ويرتكب جرائم قتل علي غرار ما حدث في الفيلم باعتبارها "آثار جانبية". فهناك مثل طبي يقول: "لا يوجد تأثير من دون آثار جانبية" والأدوية المذكورة في الفيلم موجودة. ومستخدمة ومعروفة. ماعدا دواء واحد "Aplixa) الذي تناولته المريضة "اميلي". أداء الممثلة روني مارا لشخصية الزوجة المريضة أو التي تتدعي المرض لأسباب نعرفها في نهاية الفيلم أداء علي درجة جيدة جداً من الاتقان. تجعلنا علي يقين من مدي حرص الممثلة علي حفظ الأعراض المصاحبة للمرض الذي يفترض أنها تعاني منه وتجسيد مظاهره الدقيقة والصعبة التي يكشف عنها السلوك الخارجي. مما يعني دراستها للشخصية بأبعادها. نذكر كذلك التحدي الذي تواجهه هذه الممثلة بينما تلعب الشخصية أمام اثنين من كبار النجوم الأمريكيين المشهورين "زيتا جونز. وجودلو" وتحت إدارة مخرج مثل ستيفن سودربرج الذي يبدو أنه يؤمن جداً بقدراتها حيث سبق تعاونه معها في أفلام أخري. المناخ الاجتماعي هذه الجريمة التي يدور حولها الفيلم تستدعي المناخ الاجتماعي الذي دارت فيه وتلفت النظر إلي المفارقة بين الشكل الراقي والمحترم للشخصيات التي تلعب الأدوار الرئيسية وبين الاضطراب والفساد الذي يعاني منه الأفراد. فوسط هذا الظاهر الزائف تحدد خيوط الدم آثار جريمة قتل داخل شقة يسكنها شابان يفترض انهما متحابان وأن احدهما الزوج تحرر لتوه من سجن أربع سنوات بسبب أعمال تجارية غير مشروعة. عموماً هذه النوعية من أفلام الجريمة السيكولوجية لديها ميراث قوي في صناعة السينما الأمريكية ويقف وراؤها اساطين كبار من صناع الرعب واللعب علي غريزة الخوف الذي يصل إلي مستوي رهب وقد برع في صناعتها أسماء مثل الفريد هتشكوك الذي أسس مدرسة في هذا المجال من أبرز تلاميذها بريان دي بالما فضلاً عن عشرات من المخرجين النابهين من أجيال مختلفة. وصف أحد النقاد المخرج ستيفن سودربرج بأنه أحد ابناء صناعة السينما الأمريكية الأكثر تفرداً وإثارة للدهشة. فقد أمضي 25 سنة في هذا الحفل وأخرج 26 فيلماً. وساهم في انتاج أعمال ممتازة أخري وشارك آخرين في اثراء الفن السينمائي ومنحه القيمة الفكرية والتوهج الابداعي. وجعل من الفترة التي أمضاها في صنع الأفلام نموذجاً للنجاح.. والعطاء. وقد اختار وهو في ذروة العطاء أن ينتقل إلي حفل فني آخر مثل الرسم. وفي مرسمه الذي يضم مكتبه أيضاً التقت به صحفية في حوار طويل نشر مؤخراً حول ما إذا كان ينوي العودة إلي الاخراج قال.. حتي أكون واضحاً. لن أقوم بالاخراج السينمائي بعد اليوم. ولكن لدي خطة لعمل مسلسل تليفزيوني لو ظهر في الأفق مشروع عظيم. وسوف أمنح فن الرسم مساحة أكبر من الوقت.. ** لقد جرب ستيفن سودربرج جميع أنواع الأفلام. وتعامل مع ميزانيات صغيرة وأخري ضخمة واشتغل باستقلال عن التيار الرئيسي للفيلم الهوليودي. وعمل كذلك من خلال هذا التيار وأصبح واثقاً تماماً أنه يحتاج إلي تغيير وان لديه من الموهبة ما يسمح له برفاهية التجريب في وسيط فني آخر وسوف ينجح بالتأكيد.