"اطمئنوا أنا قاعد شوية". بهذه الجملة استقبل الكابتن غزالي. في منزله بحي الغريب بالسويس. زواره الذين حضروا من القاهرة للاطمئنان علي سلامته بعد أن أجريت له مؤخراً عملية قسطرة في القلب. كان الشاعر سعد عبدالرحمن رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة قد رتب هذه الزيارة التي حضرها معه عدد من الشعراء والأدباء إلي جانب مسئولي الهيئة بالقاهرةوإقليم القناة وسيناء وقد كتب الشاعر محمود الحلواني هذا التقرير حول الزيارة: كان من المقرر "التخفيف" علي الكابتن بعدم إطالة مدة الزيارة. حتي لا يتم إرهاقه. غير أن حالة الكابتن المطمئنة. وإقباله علي الحديث بقوة. أزاحا هذه الفكرة. فامتدت الزيارة إلي ما يقرب من الساعة والنصف. طوف الكابتن غزالي خلالها بالكثير من الموضوعات التي تشغله وتشغلنا جميعا. من حالته الصحية إلي حالة مصر والمستجدات التي تمر بها إلي الشعر والأدب والرياضة. كما تخللت الجلسة روح الدعابة التي يتمتع بها الكابتن. في البداية تحدث شيخ المقاومة والشاعر الكبير عن مرضه فقال: لم أمرض من 85 عاماً. خضت الكثير من المعارك أيام الحرب. ووقت أن كانت البلد محتلة احتلالاً كاملاً. كنت مسئولاً عن فرقة مقاومة كانوا يطلقون عليها فرقة "أولاد الحرام" كنت أصاب وأجرح وكنت أذهب لتلقي الاسعافات "علي الواقف" ثم أنصرف إلي المقاومة. لم أمرض ولم أرقد علي السرير إلا في هذه المرة. أرجع الكابتن غزالي ما جري له هذه المرة إلي أحداث بورسعيد حيث قال: استشهد في بورسعيد في الأحداث الأخيرة خمسة من تلاميذي. وغيرهم طبعاً كثير. فداهمني المرض وأنا أسير في الشارع. "ماعرفتش راسي من رجليا" فسارع أصدقائي إلي نقلي إلي مستشفي خاص. وحين سمع محافظ السويس الجديد بوجودي في المستشفي أسرني بإنسانيته وكذلك وزير الدفاع. وعرضا علي العلاج في أماكن أفضل فشكرتهم. وعقب بقوله: "ذلك الفضل من الله". أضاف: اتصل يومياً بأصدقائي في بورسعيد ولا أحد يرد وهو ما يدميني أكثر. وعن الأوضاع في مصر قال الكابتن غزالي: الحادث في مصر الآن لا نستطيع تسميته. نحن الذين نزعم أننا علي قدر من الوعي السياسي. منذ الأربعينيات. جربنا كل الأيديولوجيات لم نعد قادرين علي معرفة أو تسمية ما يحدث. فهو بلا منطق. المقاومة ضد المغامرة وما يحدث فاق الهمجية. أضاف الكابتن: في الماضي كان يفصلني عن فرقة من فرق الاستعمار 120 ياردة. وكانوا أحياناً يقومون بعرض الأفلام ليلاً ويدعوننا إليها. لم تكن هناك كل هذه الوحشية ولا هذه الضراوة حتي في الاشتباكات. أضاف: كما لم يحدث هذا في حريق القاهرة الذي عشته في القاهرة. وقت الانجليز والأحزاب الهشة. كنت شاباً غريراً محددة إقامتي. فجأة وجدت نفسي "مولع" في العتبة. مع الحرائق المشتعلة في الأوبرا وشيكوريل وشاملا ومع ذلك لم يكن هناك كل هذا الخبل.. كذلك هناك حالة من الهمجية تمارسها الحكومة. لم يكن الفاشيست في إيطاليا يمارسونها. ونزولاً علي رغبة إحدي الزائرات ألقي الكابتن غزالي قصيدته "يا مصر يا ندهتي في الضيق" التي يقول فيها: يا مصر يا ندهتي في الضيق وغنوتي ع الريق عاشقك حقيقي عاشقك أمل وطريق ناقشك علي زنودي بيارق نصر مهما تدور الدواير الكل فاني وانتي اللي باقية يا مصر أدب المقاومة وكأنما ذكرته القصيدة بالشعر فعلق غزالي: إن الأشعار والأدباء تتغير ومازلنا نحن "قاعدين علي ركبنا حتي بنصلي بالمقلوب" وأضاف: الشعر المصري العامي "مقعد" بتاع فذلكة. مشيراً إلي أنه قرأ الكثير من إصدارات شعراء الجنوب. فشعر أن الكثير منهم يعانون فصاماً في الشخصية. وعرج الكابتن غزالي علي أدب المقاومة فقال: أدب المقاومة ابن اللحظة لا يهتم كثيراً بأن يدون. إنما المهم لديه أن يكون. وهو ما يؤدي إلي استجابة كل من يستمع إليه. والاستجابة تؤدي إلي إشاعة حالة من الونس.. قال الكابتن غزالي ايضا إننا قمنا بتشويه الإبداع الشعبي حين "صنفرناه وحميناه" وعالجناه تكنولوجيا فحولناه عن طبيعته. قال إن عظمة هذا الإبداع إنه يصنع حالة. تدفع الناس للمشاركة فيها. مهما كانوا غرباء عن المكان. كما ذكر أنه والناقد علي أبوشادي قاما بعمل مشروع لجمع كل ما قدم من إبداع شعبي من الميدان في كل أشكال الإبداع من رسم وشعر وغناء وقصص مشيراً إلي أنه قام بجمع كل ما تم غناؤه علي ألسنة الناس في السويس. لأن هذا هو ما سيبقي. حيث يعاني كثير من الشعب المصري من الأمية. والناس لا تقرأ ما نكتبه من الصعيد للسويس تحدث الكابتن عن مولده وعلاقته بالسويس فقال: أنا صعيدي من مواليد أبنود جاءت الأسرة لتعيش في السويس. السويس غالبيتها صعايدة. لذلك أنا عشت الصعيد هنا. لم أشعر أبداً بغربة. ولا يشعر أحد هنا بالغربة. فمهما كنت من قرية بعيدة ستجد لك أقارب هنا. قال إن الناس بعد التهجير عادت إلي بلادها ثم رجعت للسويس مرة أخري. وقليل من بقي في بلده. أشار إلي أن السويس تتمتع بوفرة البساتين والجناين. لذلك فهي تتميز بوجود أنواع من الفاكهة النادرة بها والتي لا يستطيعها إلا كبار البرجوازيين. مثل أنواع البلح والتين. والمشمش الحموي. وتعليقاً علي قولنا إننا اجهدناه قال: لا تخافوا فأنا مصارع. كنت بطل مصر في الملاكمة وأول وزني. نجحت في المحافظة علي وزني الذي كان "50 كيلو" لأكثر من عشر سنوات. فهذه الرياضة تجعلك منتبهاً دائماً وغير مسموح لك بأن تغفل جزءاً من الثانية. يمكن أن تتلقي الضربات طول المباراة وفي جزء من ثانية يمكنك أن تحصل علي بطولة العالم. أضاف: الرياضة بها الكثير من البلاغة فهي تربي وتعلم قيماً كثيرة علي المستوي النفسي والإنساني. لو تمسكنا بها لأصبحنا سعداء. وعلق الكابتن ضاحكاً "الواحد من دول الدنيا تبقي مولعة جانبه وهو قاعد بيبص لعضلاته ويحسس عليها". سألناه عن لقب الكابتن فقال هو سبب ممارستي للرياضة. أضاف: لعبت رياضة منذ عام 1947. حيث شاركت في بطولة المملكة المصرية كما شاركت في أعوام تالية. وكانوا وقتها يشترطون إجادة القراءة والكتابة. والتمتع بأخلاق حميدة. بعد ذلك وزعونا لممارسة التدريب والتدريس علي المعاهد الأوليمبية والساحات الشعبية حيث كان المدربون كلهم من الأجانب. وكانت السويس تخلو تماماً من أي مكان مصري لممارسة الرياضة فكنا نذهب لمشاهدة الأجانب وتقليدهم. واستطرد شيخ المقاومين: بالأمانة مصر بدأت سنة 1952 مع عبدالناصر. قبله كانت كوم تراب إلي جانب الباشاوات والأعيان. الشخصية المصرية وعن بداية ارتباطه بالشعر وبالثقافة بشكل عام قال: جيلي لم يكن يعرف شيئاً. لم يكن هناك أساتذة. وكان طريقنا إلي القراءة هو عم سحتوت بائع الطعمية. الذي كان يبيع لنا الطعمية في أوراق مجلة تسمي الصباح. كانت تنشر أزجالاً. وكنا نذهب خصيصاً لنشتري منه فقط من أجل أوراق المجلة. حتي وإن كنا في غير حاجة للطعمية.. أضاف الكابتن: كان هناك شغف باسترداد الشخصية المصرية. كما كانت هناك مبادرات كثيرة لذلك في كل شيء وفي كل مكان. فكنت تجد من يتعلم مزيكا. ومن يتعلم أدب وتاريخ. ومن يتعلم "الكورة" ومن يعلمون ما تعلموه. كما كانت المظاهرات هنا وهناك. وكنت تجد الأطفال يقذفون الانجليز بالحجارة. وفي 47 بدأ بعض الرياضيين المصريين ينشئون الساحات الشعبية. وفيها تدرب أبطال كثيرون. وذكر الكابتن غزالي بأسي بعض هؤلاء الأبطال من الذين حصلوا لمصر علي أكثر من 17 ميدالية أعوام 47 و48 دون أن يأكلوا اللحمة! كما ذكر أن أحد هؤلاء الأبطال حصل علي 19 ميدالية ولا يزال يبيع الفجل في السوق. وعقب: إن هذا قدر الألعاب الفردية عندنا لأنها بعيدة عن عالم البيزنس. مضيفاً: نحن تعلمنا بالعافية وكانت هناك منافسة دائمة بيننا علي لقب الكابتن. وأشار الكابتن غزالي إلي أنه يمتلك "دكانة" صغيرة تكاد تكون المعهد الأوليمبي لأبناء السويس علي اختلاف مشاربهم من البلطجية والسبرسجية وحتي الأدباء والشعراء والعباقرة. الخروج من الأزمة ورداً علي سؤالنا عن رأيه في كيفية الخروج من الأزمة الراهنة قال غزالي: إن الكثير من القوي المتصارعة علي الساحة الآن تفتقد إلي الرشد. والمقاومة لها آداب غير مرعية. ليست مغامرة. وليس أمامنا إلا أن نرجو من الله عز وجل ونلجأ إليه - كالعادة - أن يخلصنا من هذا الخبل. الكابتن وصف القوي المتصارعة في الساحة بأن أضعفها هم "الكويسين" وشبه المعارضة بالبسكويت. كما وصف تيار الإسلام السياسي بأنه يعتمد علي المبالغة. مشيراً إلي أنه عاش طويلاً تحت الأرض. لذلك لم يخرج كوادر جديدة "تفهم في بكرة". كلهم مشايخ. وأطباء لا يفهمون في أكثر من ذلك. لذلك فهم يعتمدون علي المبالغة في الأداء مؤكداً أن العالم الجديد قائم علي العلم والتكنولوجيا. وأن الدين أخاذ. لا يتعارض مع النشاط. ويحث علي معرفة كل شيء. ولا يتطلب من المؤمن إلا أن يكون عادلاً. مخلصاً في أداء واجباته. وغير كذوب. وأشار الكابتن غزالي إلي أن الأجيال الجديدة من الناشطين غير متصادمة مع الأديان السماوية. الكابتن دعا إلي "التخفف" من الكثير من موروثاتنا المعطلة وملاحقة لغة العصر والتسلح بالعلم والتكنولوجيا قال: "اكتفينا بالمتنبي. انظر إلي الشعر الجديد في العالم كلمتين ورد غطاهم. عاوز ايه أكتر من كده". كنا زمان نذهب إلي القري. نقول ونعيد ونعلم. سياسة وأدب. الآن لن تجد من يستمع إليك. لا يوجد هذا المتلقي الذي يجلس ليسمع منك موال الأدهم. أضاف: العالم تخفف. من أشياء كثيرة ليتقدم. لذلك أحلم أحياناً بأن مكتبتي قد احترقت فأقوم سعيداً. وكل ما يضيع مني كتاب أقول: أحسن. الشاعر محمد أبوالمجد مدير الشئون الثقافية بالهيئة العامة لقصور الثقافة. أخبر الكابتن غزالي - في نهاية اللقاء - بأن كتاب الباحث "حسين العشي" عنه سيصدر في بحر أسبوعين. حيث شاهد بنفسه البروفة الثانية منه. كما طالب الكابتن غزالي بتوفير أعماله الشعرية الكاملة حتي تقوم الهيئة بإصدارها وهو ما وعد به الكابتن. اللقاء حضره ايضا الشاعر محمد كشيك. والكاتب أحمد زحام. ومن مسئولي الهيئة العامة لقصور الثقافة. شريف الحسيني. عماد فتحي وممدوح كمال ومن إقليمالقاهرة وسيناء سعيد الهمشري رئيس الإقليم. ومديرو العموم: أحمد الكتاتني. والباحث حمدي سليمان. هاني حسن. كامل عبدالله. كاميليا كامل. وآمنة...