لأن سمير غريب كاتب. ومثقف. وصحفي صاحب رأي وموقف. تم حصاره منذ سنين داخل كيان مكبلاً بالقيود وضعيف الإمكانات هو "جهاز التنسيق الحضاري". ولم يفد أي من الوزراء السابقين ولا الوزير الحالي د. صابر عرب من إمكانات سمير الإدارية العالية التي اثبتها في رئاسته لصندوق التنمية الثقافية ودار الكتب. حينما تولي رئاستهما. لا ينظر الأدباء والمثقفون لسمير بصفتة "موظفاً" بل بصفته واحدا منهم. ولذا فعندما قدم نفسه مرشحا لعضوية مجلس إدارة اتحاد الكتاب حظي بثقة كبيرة من أدباء مصر.. ورغم المنصب الكبير الذي يتولاه في وزارة الثقافة وإن كان منصبا معنويا أكثر كرئيس للجهاز فإن له رؤيته المستقلة عن الثقافة الرسمية التي تمثلها وزارة الثقافة. وكان علي خلاف دائم مع سياسات هذه الوزارة علي مدي سنين قبل نشوب ثورة 25 يناير. تحدث سمير غريب إلي "المساء" عن الوضع السياسي الراهن. من وجهة نظر ثقافية. وعن تشرذم المثقفين. وعن غياب الوعي لدي الكثيرين من الناس. ** سألناه: أداء الأدباء والمثقفين في مجال العمل الثوري علي الأرض وبين الجماهير. خاصة من خلال تنظيماتهم كاتحاد الكتاب ونقابة التشكيليين ونقابات المهن الفنية. بدأ باهتا منذ 25 يناير 2011 حتي هذه اللحظة. حتي إنه تم تغيبهم عن اللجنة التأسيسية للدستور.. إلام تعود هذه الظاهرة السلبية؟! * قال: الظاهر علي السطح أنه من شارك في الثورة وأحداثها منذ 25 يناير 2011 حتي الآن من الأدباء والكتاب. خاصة في القاهرة. عدد قليل لا يقاس بأعدادهم الغفيرة.. لكن لا أعلم مدي مشاركة الكتاب في هذه الأحداث بأقاليم مصر.. وبدون شك كان الأدباء يستطيعون أن يقرروا أداء اكبر من هذا. سواء علي مستوي العمل الجماهيري أو السياسي أو الإبداعي والفكري . إن عددهم كبير جدا في المجتمع المصري. ويمكن أن نلقي نظرة علي الآلاف منهم الذين يضمهم اتحاد الكتاب ونوادي الأدب والجمعيات الثقافية.. فهل شاركت هذه الآلاف في احداث الثورة؟! ربما لا تستطيع إحصاء أكثر من 20 أديب كان لهم دور بارز.. وفي مقابل هذا نري نقابة مثل نقابة الصحفيين أقوي مشاركة وأكثر تأثيرا في الرأي العام. من خلال وسائل شتي كالصحف والقنوات الفضائية والعمل السياسي المباشر داخل النقابة وخارجها.. فماذا فعل اتحاد الكتاب مثلا!! إصدار عدة بيانات!!! ماذا كان موقفهم من الدستور. بصرف النظر عن هذا الموقف: موافقة أو رفضا؟! وأين هم كأعضاء بالاتحاد من كل الواقع السياسي والراهن ومن المشاكل الاقتصادية المستعصية التي تعانيها مصر. وما يحدث من هجوم دائم علي حرية الرأي والفكر والإبداع؟!! ** تري. ما الذي يحول دون هذه المشاركة الإيجابية وقد اصبحت كل الدروب مفتوحة للعمل الوطني؟. * الأمر يعود إلي الوعي العام والخاص. أي مدي الجمهور ولدي الكتاب أنفسهم.. وموهبة الكتابة وحدها لا تكفي لتأكيد فكرة الوعي وامتلاك الرؤية.. لابد من أن يمتلك الكاتب وعيا سياسيا علي مستوي عال وأن يملك التصور والرؤية للمستقبل. وأن يكون لديه قرون استشعار بشأن التقدم وحتميته في مستقبل الأمم.. والتقدم نفسه كمصطلح يفهم من وجوه شتي.. ولا أحد يدعي أنه مع "التخلف" ضد التقدم.. لكن لكل تيار فكري فهمه لمسألة التقدم .. فالمحافظون لديهم تصور ما عنه. والليبراليون لديهم تصور آخر. واليسار كذلك.. والنموذج هنا مثلا ابداع المرأة. فهناك من يشجعه ويدفع إليه سواء أجاء من المرأة أو الرجل. فلا فرق. وهناك من يري الإبداع هذا كنشاط إنساني ينبغي أن يقتصر علي الرجل.. وهناك من يراه بلا حدود ولا قيود تكبله. ومن يراه موجها لخدمة غرض ما وفي حدود ما. ينبغي ألا يتجاوزها. ** ربما كان غياب المنظومة التي يستظل بها مثقفو مصر ومبدعوها سببا من أسباب ركودهم وتراجعهم في المجتمع. سواء قبل الثورة وبعدها. * نعم.. الأمر مرتبط بالقدرة علي العمل الجماعي. والتنظيم النقابي. وتغليب العام علي الخاص والذاتي.. ولهذا امتلك الصحفيون قدرة علي الحركة والتأثير أكثر من قطاعات المثقفين والمبدعين .. وهذا لا ينفي وجود أصوات فردية تحاول تعويض هذا النقص. الكتابة في ذاتها لا تمثل هذا الفارق. من المهم أن تحمل الكتابة هذه عناصر التحريض علي التقدم بمعناه الإيجابي الدافع للأمام والداعي إلي التجديد والتطوير.. فالعقاد مثلا كان كاتبا كبيرا. لكنه كان حجر عثرة أمام فكرة التقدم بمفهومها الإبداعي والسياسي في مصر.. وقف في لجنة الشعر ضد الشعر الجديد: التفعيلي. ووقف ضد منح رمسيس يونان منحة تفرغ وهدد بالاستقالة لأن رسوماته عبثية من وجهة نظرة.. فهذا هو العقاد. فما بالنا بالآخرين الذين لا يطاولونه قيمة وقامة؟! ** وماذا عن دور الكيان الرسمي المسمي بوزارة الثقافة وأنت أحد قياداتها في ظل هذا الوضع المضطرب والمتراجع؟! * الكيان الرسمي مكبل بالقيود: قيود قانونية ومالية وبيروقراطية. تجعله كهرقل سجينا!! قوة جبارة لا تستطيع الحركة ومن واقع خبرتي فلابد لكي تفيد هذه الوزارة المجتمع الفائدة التي تتناسب مع حجمها من فك كل هذه القيود. ومنحها أكبر قدر من الحرية في العمل. علي سبيل المثال الوزارة جزء من المجتمع المصري بكل مشاكله. ومنها تكدس الوزارة بآلاف من العمالة الزائدة. مما يضيع امكاناتها المادية ويكتل حركتها.. ومستحيل أن تستبعد موظفاً واحدا من هذا الحشد الضخم. قد تستطيع أن تستبعد الوزارة نفسها ولا تستبعد موظفاً!! ** هذه الجيوش من العمالة الزائدة. كان يمكن تثقيفها فتتحول من قوة سلبية الي إيجابية بنشر الوعي في المجتمع. ومقاومة نزعات الجهل والتطرف.. لكن الوزارة فشلت حتي في تثقيف معظم موظفيها!! * يجب ألا نهتم بالحجر وننسي البشر. فننشيء مباني وقصورا وبيوت ثقافة ومتاحف. ثم لا نعني بمن يدير هذه المباني ويوظفها ويحافظ عليها ويحولها الي عناصر جذب للشعب .. فالأولوية كان ينبغي أن تكون للبشر قبل الحجر.. وعلي مدي ربع القرن الأخير كتبت هذا المعني وأكدت عليه. وأن التنمية البشرية هي مفتاح التقدم. ** هذا الفشل المزمن لوزارة الثقافة طوال ربع قرن أغري البعض للمطالبة بإلغائها . شأنها شأن وزارة الإعلام في حتمية هذا الإلغاء.. ما قولك في هذا الصدد؟! * منذ حوالي عشر سنوات قلت في إحدي الصحف بإلغاء الوزارة. وإلغاؤها سيكون أحد علامات التقدم في المجتمع المصري.. وقرأ فاروق حسني وزير الثقافة السابق حينها هذا الحديث فغضب غضبا شديدا. وطلب مني تكذيبه. فبذلت جهدا لأوضح له أن الدولة المتقدمة في الثقافة لا تعتمد علي الحكومة.. فليس هناك شيء اسمه "ثقافة الحكومة" بل ثقافة المجتمع . والمجتمع يحتاج الي وزارة ثقافة إذا لم تكن لديه بنية أساسية ثقافية قوية تستطيع أن تعمل بدون تدخل الدولة. وإذا وجدت هذه البنية وانتشرت بدون تبعيتها للحكومة وبدون الإنفاق من أموال عامة. فهذا يعني وجود مؤسسات ثقافية قوية بدون الحاجة لأموال الدولة وسيطرتها وتوجيهها.. وهذا يعني أن المجتمع يؤمن بالثقافة ويدعمها ويملك الناس المسارح والمتاحف ودور النشر والمكتبات ودور العرض ومراكز الثقافة التي لا تملكها الحكومة.. وقلت لفاروق حسني حينها ستظل وزارة الثقافة موجودة مادام المجتمع متخلف ومحتاجا للدولة لترعي الثقافة. ** وهذا يعني أن وزارة الثقافة لديها مازال عمرها طويلا!! * معظم الدول ليست بها وزارة ثقافة.. وهناك استثناءات قليلة مثل فرنسا التي حافظت علي هذه الوزارة لديها كرمز تاريخي. لكن أكثر الدول بها مؤسسات لحماية التراث.. والإعلام كذلك نفس الحكم. فليست هناك وزارة اعلام الا في بعض دول العالم الثالث في فرنسا مثلا الحكومة لا تملك سوي خمس قنوات فضائية منها اثنتان موجهتان لخارج فرنسا تبث بعدة لغات.. هذا مقابل مئات القنوات الخاصة.. والطريف أن القناة الأولي في فرنسا أرضية وقطاع خاص. الإعلام والثقافة ينبغي ألا يكون ملكا للحكومة في أي مجتمع متقدم. لأنهما يتعاملان مع الفكر والإبداع. وليس هناك فكر وابداع حكومي. بل المجتمع هو المبدع والمفكر.