عند نهاية الفيلم السوري "العاشق" للمخرج عبداللطيف عبدالحميد تشعر كأنك عائد من رحلة جمعتك بعشق قديم ضاع. وحلم كبير تلاشي. وبرجال صاروا أشباه رجال. شاخت ملامحهم. وخمدت حناجرهم. وتبددت شعاراتهم الفارغة في البراري. ولم يبق منها سوي رجع الصدي. لم يتبق من هذه الرحلة الممتعة الشجية سوي عشق الفنان. وفنه وشهادته علي من عاشه. زمن النضال بالحناجر وبالصوت الجهوري. والنفاق السياسي والشعارات. الحماس الأجوف. زمن "الكلام" عن قضية العرب الأولي "القضية الفلسطينية" والحرية والاشتراكية والوحدة العربية. صورة الفنان في صباه وحبه الأول مع "هدي" ثم عشقه للجارة "ريما" التي تزوجها بعد أن صار مخرجا يصنع الأفلام ويظهر في التليفزيون ويواصل شهادته علي زمن لم تتغير ملامحه ربما وإن زاد الوعي به.. صورة رسم المخرج تفاصيلها بحساسية وقوة ملاحظة ونزعة ساخرة وخفة روح. وبصيرة نافذة. بطل "العاشق" مخرج سينمائي "عبدالمنعم عمايري" يبدأ به الفيلم وهو يجلس في شرفة شقته الصغيرة بدمشق وأمامه طاولة يكتب عليها. وطبق يمتليء بحبات الكرز. يقضم واحدة ويلقي بالباقي إلي "ريما" جارته وحبيبته التي تجلس في الشرفة أسفل شرفته. مراد -وهذا اسمه- انتهي لتوه من فيلم يصوّر تجربة حياته منذ أن كان صبياً مراهقاً في الضيعة. وتلميذاً في المدرسة القريبة يتلقي العلم علي أيدي معلمين من إفراز نظام شمولي قمعي. ويعيش في كنف أسرة ريفية تقليدية للأب فيها سلطة مطلقة. "مراد" الصبي يحمل إناء العجين يومياً و هو في طريقه إلي المدرسة. يتركه للخباز ثم يعود بالخبز عند عودته. وفي الطريق يمنح راعي الأغنام رغيفا. المعلمون في المدرسة ضيوف دائمون علي والده "أبو نزار" ونزار شقيق مراد الأكبر موظف يعيش في اللاذقية ويلهو مع نساء المدينة. والأخت ليلي. ضجرة من كرم والدها وخدمة الضيوف. الأم طيبة مستسلمة ومطيعة كالعادة لأوامر الأب المعروف بكرمه.. فهو مزارع يمتلك قطعة أرض. يزرعها بنفسه. تساعده الزوجة والابنة ومراد رغما عنه أحياناً. ناظر المدرسة متسلط. خسيس. يتجسس علي التلاميذ. وفظ لا يعرف الرحمة في تعامله معهم. وعندما يكتشف قوة صوت "أبو نزار" يستغله في ترديد شعار الصباح اليومي الذي يردده التلاميذ "وحدة. حرية. اشتراكية".. وحتي يتحقق ذلك يضع لأبي نزار منبه "ساعة" بحيث يكون جاهزا الساعة الثامنة من كل يوم.. يردد الشعار ويحمله الصدي إلي التلاميذ عبر الفراغ. التفاصيل في الفيلم شيقة جدا وطريفة. والطبيعة الجميلة تجعل للمكان سحره. وكذلك واقعية الديكور بالنسبة لبيت أسرة مراد. علاقة أفرادها. وسلوك الأب الذي يمزج بين الشدة المفرطة والحنان المستتر. والمسئولية الفطرية إزاء الوطن. والحلم العربي الكبير. بالإضافة إلي كرمه الشديد مع الآخرين حتي انهم يلجأون إليه طلباً لقرض مادي.. في بداية الفيلم نرقب مشهدا فكاهيا طريفا لرجل جاء يطلب خمسمائة ليرة من "أبو نزار". أرسله له جاره "أبو رشيد". الرجل يلح في الطلب. وأبو نزار يعتذر.. في هذا المشهد تلمح روح المخرج في إدارته للممثلين. علماً بأن المخرج هو نفسه من يقوم بدور "أبو نزار".. هنا تظهر موهبة عبداللطيف عبدالحميد. وأسلوبه الساخر الفريد في تغليف المشهد بألوان وظلال محسوسة ومحملة بمشاعر ودعابة إنسانية تضيف إلي متعة الفرجة. بناء الفيلم الفيلم يعتمد في بنائه علي خطين: التاريخ الشخصي لمراد في صباه ومراهقته حين كان يعيش في كنف الأسرة بالضيعة. وعلاقته مع شقيقه "نزار" عندما ينتقل ليستكمل تعليمه في المدينة. وعلاقته مع صديقه عمر زكريا. الصداقة التي استمرت حتي النهاية. ثم غرامه بالسينما. والموسيقي. وحبه الأول مع "هدي" جارته التي تزوجت رغما عنها وظلت تحبه حتي آخر عمرها القصير.. إلخ الأحداث التي استعادها وصورها في فيلمه الذي أخرجه عن سيرة حياته. والخط الثاني الذي يتابع هذه السيرة نفسها ويعكس التطورات التي أصابتها في الحاضر.. بعد أن أصبح مخرجا معارضا للحزب والنظام وعاشقا مازال.. ولكن لجارته الرقيقة في دمشق ريما "ديمه قندلفت" الفتاة الجامعية الرقيقة المتحررة والتي تخضع رغما عنها لسلطة أبوية مطلقة. لا يعرف التهاون فيما يؤمن به من تقاليد محافظة تضطرها في النهاية إلي الهرب مع "مراد" والزواج به والذهاب معه إلي الأسرة في الريف حيث يبارك الأب "أبو نزار" الزواج ويحتفي به. الصداقة المقدسة تتطور صداقة مراد بعمر زكريا الذي صار طبيبا مرموقا يعالج الحبيبة الأولي من مرض عضال.. فللصداقة عند المخرج -المؤلف- قداستها. وكذلك "الأسرة" بتقاليدها ودفئها و"الأخوة" بين مراد وصديقه "نزار" الذي كان قاسياً مع شقيقه. ولكنه عاد واعتذر.. هذه العلاقات كلها لها قداستها. واحترامها وثقلها الدرامي في فيلم "العاشق" الذي يقطر "حبا" ويذوب "عشقا" وينقل إلينا "عداوة" فنشعر بالإثارة. أيضا أهمية السينما ودورها في انعاش الروح وتغذية الوعي. وتأثيرها النافذ في وجدان بطل الفيلم. المزج بين سيرة الحياة كما يصورها فيلم "مراد" الذي نستعيد وقائعها أثناء عملية المونتاج التي يشرف عليها مراد مع مساعده "نادر" في وجود "ريما" الحبيبة.. أقول هذا المزج المرهف بين المرحلتين يتم من خلال نسيج دقيق وناعم يدمج بين ماضي حياة مراد كما صوّرها في فيلمه. وبين حاضره كما تتوالي أحداثه أمامنا. ويضع الزمانين أمام خلفية سياسية واجتماعية يصورها بوعي وبصيرة. وفي مناخ مرئي مريح وشعوري عامر بالإحاسيس والروح الرومانسية التي تميز أفلام هذا المخرج المبدع السوري العاشق لسوريا. والمحبط مثلنا جميعاً بأحلام قومية تم إجهاضها. وأيضاً العاشق لمصر أم كلثوم وسيد درويش وعبدالوهاب. مصر التي في خاطره لم تبرح أفلامه بما فيها هذا الفيلم "العاشق". ألحان خالدة "مين عذبك بتخلصه منّي" و"ليه تلاوعيني وانت نور عيني" و"ماذا أقول لأدمع سفحتها أشواقي إليك".. هذه كلها غيّرت حال "مراد" المخرج وعازف العود وصانع الأفلام الواقعية الجميلة وعضو "نادي الموسيقي" الذي تأسس في سوريا عام 1935. هذا النادي الذي فتح أمام "مراد" و"عمر" صديقه آفاقاً للحلم والخيال والحب. وأعطي للفن معناه الأشمل الذي يسمو بالروح ويجعلها تحلق في سموات من الابداع. الضيعة التي عاش فيها مراد ووالده "أبو نزار" وشقيقته ليلي التي عاشت تخدم الرجال أصدقاء والدها. وتحلم بالزواج من رجل تحبه ويحبها. وتصنع الخبز وتعد أطباق الطعام للضيوف. لم تجد من يحبها ويتزوجها.. إنها شخصية تتعاطف معها وتحبها. أيضا صورة الأم السورية.. مثل صور الأم العربية الريفية في كل مكان.. وصورة الأب الشرقي التقليدي صاحب السلطة الأبوية المطلقة. بدورها قريبة جدا من آبائنا كما تحملهم الذاكرة. وقد جسد صورة الأب باقتدار المخرج -المؤلف.. واعترف بأن الفرجة علي أدائه متعة فهو شخصية مقنعة جدا حقيقة. كرامة. صارمة. قوية الشكيمة في أعماقها دفقات من الحنان تخرج في لحظات تكشف عن معدنها الأصيل. كثيرة تلك المشاهد التي صورها هذا المخرج السوري العربي المبدع. والتي تمزج بين الفكاهة اللاذعة والإيمان المطلق بالتقاليد والقيم والأصول العربية الصحيحة بعيدا عن الايديولوجيات الجامدة. صورة الأب في نهاية الفيلم مهزوما.. وقد ضاع حلمه وانكسر صوته. صورة جد مؤثرة وحزينة وتحمل رسالة بليغة سياسية وتاريخية لمن يهمهم الأمر. حوار فيلم "العاشق" منحوت من مفردات الحياة القروية الرعوية. في قرية سورية.. حوار عذب وأحياناً رثائي حزين ومفعم بالمشاعر. وصورة الفنان كما رسمها المخرج في "العاشق" ليست فقط لإنسان يعيش بروح عصره وضمير المجتمع والذي تربي فيه. والأمة التي ينتمي إليها ويعكس ثقافتها. ويصون قيمها ويعبر عنها في أعماله. منها صورة للفنان المنتمي الذي يتحمل إساءات السلطة القامعة سواء كانت من صورة مواطن موتور يصفعه علي وجهه ويبصق في وجههه لكونه مخرجا معارضا. وكذلك يتحمل تهديدات ناظر المدرسة الذي أصبح مسئولا كبيرا بقطع لسانه.. وما أشار إليه في لقاءاته التليفزيونية. صورة المسئول كما صورها الفيلم ورسمها من وجهة نظر تلخص مضمون ما انتهت إليه الشعارات الفارغة وخيبة الأمل التي أصابت أبو نزار في النهاية. فيلم "العاشق" من أجمل الأفلام العربية التي ظهرت في السنوات الأخيرة. وكان ضمن أفلام المسابقة الرسمية في الدورة الخامسة والثلاثين.. ولكن لأسباب ليست فنية أصرت المدير الفني للمهرجان -ماريان خوري- أن يتم استبعاده من المسابقة ومن ثم ضاعت علي جمهور المهرجان فرصة مشاهدته.