علي الأرض العربية منطقة طبيعية عذراء.. عزلاء. بكر لم يمسسها بشر. ولم تقترب منها يد تطول من جمال الطبيعة فيها.. أو تشوه سحرها. حين تشاهدها كأنك لم تر طوال حياتك مثلها أبداً أنها شبه ملاك رقيق حباها الله بالحسن والروعة حتي تكاد لا تصدق عيناك. فمثل هذه المناطق قادرة علي أن تبعث في الإنسان شحنات من الجلال والسكينة والتأمل في الوجود والقدرة الربانية.. جمال طبيعي خام ثري بالأسرار مبهر وغامض.. وعلي حاله منذ آلاف السنين. اتحدث عن جزيرة سوقطرا اليمنية التي وصفوها بأنها الأرض ذات الشكل الأكثر غرابة علي وجه البسيطة. والتي تضم مئات من أنواع النباتات والأشجار النادرة غير الموجودة في أي مكان آخر علي الكوكب. في عام 2008 أعلنت اليونسكو أن سوقطرا "socatra) محمية طبيعية وبدعم الاتحاد الأوروبي. هذا المكان الآسر جعله المخرج اليوناني مانويل دي كوكو خلفية لفيلمه "أرض مجهولة". من نوعية الدراما التسجيلية. ويحكي عن سفينة إسرائيلية صغيرة عليها ثلاثة أشخاص تعرضت لرياح المونسون العاتية فغرق من فيها إلا واحداً قذفته الأمواج بالقرب من شاطئ الجزيرة وهو في شبه غيبوبة. وعلي نفس الشاطئ يرقد في استرخاء واحد من السكان يري في المنام أن هذا الغريق يستغيث به. فيدعو الله أن يساعده علي تلبية رجاء هذا المنكوب.. الواقع والخيال ممتزجان في فانتازيا بصرية مدهشة.. لا يوجد احداث وإنما حالة من التصوف أو بالأحري التأمل العميق جداً يأتي في مونولوج طويل للرجل الذي نجا من الغرق. وكيف لعب هذا الجمال المعروض علينا ونحن نتابع مونولوجه. بوجدانه ومشاعره. الصوت عميق واللغة الانجليزية التي يعبر بها عن هذا الابداع الرائع والسكينة النادرة والعزلة التامة عن صخب الأحداث خارج الجزيرة. لغة رصينة فالرجل حسب ما نفهم إسرائيلي من أب بريطاني وأم إسرائيلية.. ثمة عواصف أخري تأتي اخبارها من خلال مذياع عتيق جداً إلي جانب أحد سكان الجزيرة طاعن في السن يدخن ولم يبرح مكانه طوال مدة الفيلم وإلي جواره المذياع. الجسر الوحيد إلي العالم الخارجي.. اخبار ثورات الربيع العربي تبثها المذيعة حول ما يجري في اليمن وسوريا ومصر.. الغريق الذي نجا والذي نسمع صوته فقط بينما الكاميرا تستعرض الجزيرة والسكان. يظهر في لقطات قليلة وهو يقاوم الموج ويحاول الطفو. أو هو في إسرائيل التي لا يظهر منها سوي الكنيسة والجامع في لقطة عامة بعيدة. وحسب ما نفهم من مونولوجه مؤلف وكاتب حظي بشهرة ومكانة وكتب عن آلام الناس التي شارك هو نفسه في صنعها. هذا الغريق يحكي أيضاً كيف استطاعت هذه "المملكة من البساطة" ومن الورع الروحاني للسكان البسطاء أن تغسل روحه وتعيد بعثه وكأنه ولد من جديد. وكيف نفذ المواطن الذي يصلي ويؤذن للصلاة إلي وعيه وهو يقيم علاقته مع الخالق دون وسيط. عندما تمر السفينة فوق مياه المحيط عبر مخيلة الغريق الناجي من الموت وعليها العلم الإسرائيلي نلمح اثنين كان هو ثالثهما. ولكنه انعزل عنهما حينما شاءت الأقدار أن ينجو من الغرق. وتضعه وسط هذا المتحف الطبيعي الفذ.. الكاميرا في هذا الفيلم ملكة متوجة. صاحبة اليد الطولي عن اثار مشاعر المتلقي. امكانياتها التكنولوجية تنقل الجمال والسحر بمنتهي الحنان. كاميرا حانية فعلاً متأملة. ورائعة جداً.. والمخرج مفتون بالمكان وبالإنسان.. ويقدم إلي جانب المشهد الطبيعي بورتريهات مدهشة للوجه الإنساني المتفرد بملامحه وبخطوط الزمن المحفورة علي بشرة وجهه وبأشكال ورسومات الحناء علي كفي المرأة وخطوط الكحل في عيونها السوداء. أيضاً أمام تشكيلات الفروع العتيقة للأشجار النادرة. وتكوينات الجذوع وتشعباتها.. الفيلم سبق عرضه في مهرجان بغداد بالعراق. وحصل علي جائزة وكذلك عرضته إيران في مهرجان طهران السينمائي. وسوف يعرض في مهرجان القاهرة ضمن برنامج حقوق الإنسان بنفس العنوان "أرض مجهولة".