ساعتان من المتعة الذهنية والبصرية هما حصاد مشاهدتي للفيلم البريطاني الفرنسي الألماني المشترك «The Ghost writer » أو كما عرض تجارياً في الصالات المصرية تحت عنوان «رجل في الظل» الفيلم الذي فاز عنه مخرجه البولندي الكبير رومان بولانسكي بجائزة أفضل مخرج في مهرجان برلين ينتمي إلي النماذج الرفيعة في سينما الغموض والتشويق ولكن هذه المرة بمذاق السياسة.. قد لا يكون في هذا الفيلم التحليل العميق للجوانب النفسية للشخصيات - وبالذات نوازعهم الشريرة - مثلما تعودنا في أفلام «بولانسكي» الذي ينظر دوماً بعين الشك إلي الإنسان، ولا يفترض فيه أبداً النوايا الطيبة لأسباب متعلقة بحياة «بولانسكي» نفسه وتجارب عائلته، كان فيلم «رجل في الظل» يحتمل بالفعل هذا التحليل النفسي الأكثر عمقاً، ولكن الحبكة التشويقية والمغزي السياسي استأثرا باللوحة تماماً التي يجب أن نسجل أنها جيدة الصنع لدرجة تذكرك بطعم روائع وكلاسيكيات أفلام الغموض والتشويق، ورغم ذلك ظلت استاذية «بولانسكي» حاضرة كمخرج يعرف كيف يستخدم أدواته باقتصاد وإحكام دون أن يفلت منه مشهد واحد كبيراً كان أم صغيراً. الفيلم مأخوذ عن رواية بعنوان «الشبح» كتبها «روبرت هاريس» الذي اشترك أيضاً في كتابة سيناريو الفيلم المحكم مع «بولانسكي»، أما تعبير The Ghost writer فيعني ذلك الكاتب المحترف الذي يساعد المشاهير في صياغة وكتابة مذكراتهم الخاصة، إنه إنسان موهوب جداً، ولكنه لا يكتب شيئاً يخصه، وإنما يكتب بلسان من يحكي له عن ذكرياته، نستطيع القول إن حضوره افتراضي علي الورق بينما يبقي الكتاب باسم الشخصية المشهورة التي تروي مذكراتها، وفي فيلم «رجل في الظل» بناءان شاهقان متداخلان وممتزجان: مغزي سياسي يدين بطريقة غير مباشرة كلاً من رئيس الوزراء البريطاني السابق «توني بلير» والولاياتالمتحدة معاً، بل إنه يفسر تأييد «بلير» الأعمي لكل السياسات الأمريكية بأنه كان عميلاً (بالمعني الحرفي) للمخابرات المركزية (CIA) ، أما البناء الثاني فهو تشويقي يقوم علي التفاصيل الصغيرة التي تتجاور لترسم لوحة لا تكتمل إلا في المشهد الأخير.. ويحمل هذان البناءان أربع شخصيات أساسية تمثل مفاتيح الفيلم. الشخصية الأولي والمحورية هي الكاتب البديل الذي لا نعرف اسمه، والذي يلعبه «إيوان ماكجريجور» المقصود بالطبع إغفال ذكر الاسم تعبيراً عن الدور غير المرئي الذي يقوم به كاتب المذكرات المحترف، أنه بالضبط الجندي المجهول الذي يتعامل مع الشخصية المشهورة كزبون مقابل مبلغ من الدولارات، الكاتب البديل في فيلمنا يقرر ان يخوض مغامرة كتابة مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق نظير ربع مليون دولار. أما الشخصية الثانية فهي «آدم لانج» (بيرس بروسنان) وقد رسمت شخصيته بصورة لا تترك مجالاً للتخمين علي أنه «توني بلير» رئيس الوزراء البريطاني السابق، شخص وسيم مازال محتفظاً بشبابه مكروه بسبب دوره في دعم غزو العراق، تطارده سياساته الخاطئة حتي بعد خروجه من الحكم، يحاول في الفيلم أن يصدر كتاباً عن حياته الخاصة وحياته السياسية مقابل الحصول علي 10 ملايين دولار، وينتهي إلي الاستعانة بالكاتب البديل القادم من لندن إلي أمريكا حيث يقيم «لانج» بعد الاعتزال والتفرغ لمؤسسة خيرية تحمل اسمه! الشخصية الثالثة المحورية هي الزوجة «روث لانج» (بأداء القديرة أوليفيا ويليامز) والحقيقة أن هذه الشخصية هي مفتاح الفيلم كله إذ إن معها فك سرّ الغموض، وفك أسرار مواقف زوجها السياسية، ورغم أن أداء «أوليفيا» مدهش ومتفوق، إلا أن شخصية الزوجة - علي الورق - كانت تحتمل دراسة نفسية أعمق لتفسير مشاعرها المركبة سواء تجاه زوجها «آدم» أو تجاه الكاتب البديل، الحقيقة إنني لم أفهم بالضبط هل هي تحب زوجها أم تكرهه؟ هل تشعر ناحيته بالذنب لدورها في رسم ملامح مأساته أم إنها تشعر فقط بالتعاطف؟ أم أنها تؤدي دورها فقط بجانب زوجها كأي سيدة بريطانية محافظة علي الأقل أمام الناس وتبقي الشخصية الرابعة المحورية، والتي لن نراها أبدا، إنه مايكل ماكارا الكاتب البديل الأول الذي يتم العثور علي جثته غريقًا في أول مشاهد الفيلم، لقد ساهم مايكل في كتابة المسودة الأولي الضخمة للكتاب الذي سيحمل مذكرات «آدم لانج» وبسبب غرقه المفاجئ ستأتي الفرصة لكاتبنا البديل الجديد، شخصية مايكل التي نسمع عنها ولا نراها محورية لسببين: الأول هو أن المسودة التي تركها ستفتح أمام الكاتب البديل الجديد أبواب حل كل الألغاز، وسيظل دور هذه المسودة مستمرًا حتي اللقطة الأخيرة من الفيلم والسبب الثاني الأهم هو أن كاتبنا البديل الجديد سيسير حرفيا علي خط الكاتب البديل الغريق وليس علي خطي الشخص الذي استدعاه لكتابة المذكرات وهي آدم لانج. هناك إذن حيلة خفية في القصة والسيناريو: البطل الأصلي للكتاب هو الشخصية الشهيرة المعروفة ولكن بطله الحقيقي شخص سبحي لا يعرفه أحد إلا الناشرون، ثم سنكتشف بعد قليل أنه حتي الشخص البديل الجديد ليس البطل الحقيقي، وإنما هناك شبح ثالث لا يظهر أبدًا هو «مايكل ماكارا» الحقيقة أن لعبة الظاهر والخفي هي لعبة الدراما كلها سواء في بعدها التشويقي أو في بُعدها السياسي الفيلم الذي يجعل «آدم» يتصدر المشهد كاملاً في البداية يكشف في النهاية أن وراءه شبحا سياسيا هو المخابرات الأمريكية التي نجحت في تجنيده للعمل لصالحها عندما كان طالبا في جامعة «كامبريدج» ومن زاوية حل عقدة الغموض في الفيلم كله سنكتشف في النهاية أن هناك شبحًا آخر لا يخطر علي البال كان وراء تجنيد «آدم» لهذه المهمة. البناء إذن لا يستخدم كلمة «الشبح» من باب التعبير المصطلح عليه لوصف مهنة الكاتب البديل فقط ولكنه يستنزف الكلمة في كل أبعادها التشويقية والسياسية، ويقول بصراحة إنه يجب محاكمة رجال السياسة علي قراراتهم التي قد تؤدي إلي ارتكاب جرائم، حتي بعد خروج هؤلاء السياسيين من السلطة، ويقول أيضا ان الولاياتالمتحدةالأمريكية التي لا تعترف بالمحكمة الجنائية الدولية تقف بمفردها أمام العالم، وتحمل الذين ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ومنهم آدم الذي يتهمه الفيلم بأنه قام بتسليم مواطنين بريطانيين مسلمين اتهموا بالإرهاب إلي الولاياتالمتحدة حيث تم تعذيبهم والحصول علي اعترافاتهم مما أدي إلي مصرع احدهم. ولكن صوت السياسة لا يرتفع أبدا فوق صوت الدراما مثل كل الأعمال الناضجة، بل إن الكاتب البديل الجديد ليس لديه أصلا اهتمامات سياسية، ولكنه سيكتشف جرائم السياسيين تدريجيا من خلال دخوله إلي عالم «آدم» وزوجته، بل إن تحول الكاتب البديل يمر بمراحل يبدأ كرجل محترف يضع موهبته في خدمة زبونه المشهور ثم يشعر الكاتب بالخطر وبالخوف علي حياته حتي لا يلقي مصير الكاتب الغريق «مايكل ماكارا» ثم يصل إلي الاكتشاف الأكبر بأن آدم عميل للمخابرات الأمريكية، وفي كل خطوة مرحلة تقتنع تماماً بما تراه رغم أنه لم يحدث في الواقع، الفن إذن - أخذ ملامح شخصية واقعية ثم نسج حولها واقعاً فنياً موازياً محكم البناء يجعلك تخرج من الفيلم وأنت تردد: ولم لا ؟ وهذه هي روعة الفن الذي يقدم لك ما يحتمل حدوثه، والذي يصنع واقعاً لا يقل صدقاً عن الواقع المعاش. لابد أن أتوقف أمام رومان بولانسكي كمخرج، أعظم ما فعله في الفيلم أنه جعلك تشعر أنه لا يوجد مخرج، أقصد بذلك أنه اعتمد أسلوباً شديد البساطة في تقطيع مشاهده، كل ما تريد ان تراه سيجعلك تراه في التو واللحظة، هناك عيون موضوعية نري من خلالها الأحداث، عيون محايدة تندهش وتبحث مثلنا، حتي في مشهد اغتيال «آدم» علي أيدي رجل عجوز فقد ابنه في العراق، لم ينس «بولانسكي» هذه الرصانة التي يقدم بها الحدث وكأنه جزء من فيلم اخباري، وحتي في مشهد مطاردة الكاتب البديل كانت الكاميرا تتأمل وتندهش مثلنا، ولم تنطلق الكاميرا بحرية كاملة إلا في مشهد الحفل الأخير حيث تابعت في لقطة متصلة الورقة التي كشفت لغز الفيلم كله. هناك اقتصاد تام في كل شيء، الاعتماد كله علي خلق الجو العام الضبابي والرمادي ولا يظهر الأحمر كلون ساخن إلا في مشهد الفندق الثاني الذي يهرب إليه الكاتب البديل، ساهم في خلق جو منزل المنعزل المطل علي الشاطئ والذي تكتب فيه المذكرات، داخل المنزل مساحات واسعة تشعرك بالبرودة، وخلفيات زجاجية ضخمة تظهر فيها سماء ملبدة بالغيوم، بولانسكي أيضاً أستاذ في إدارة ممثليه الذين يحصلون عادة علي أرفع الجوائز تحت إدارته، هو أيضاً ممثل ويعشق الممثلين، في فيلمنا سنكتشف قدرات «بيرس بروسنان» كمشخصاتي قدير لا تظهر أدواره في «جيمس بوند» عشر إمكانياته. وسنلاحظ الأداء الواثق الذي قدم به «إيوان ماكجريجور» شخصية الكاتب البديل: الطموح الذكي اللبق في الحديث والمغامر أيضاً، ولابد أنك ستتوقف ممثلي أمام أداء «أوليفيا ويليامز» خاصة في لقطات رد الفعل المحسوبة، لو أفلت تعبير خاطئ من هذه الممثلة القديرة لانهار بناء الحبكة كلها، ولا شك عندي في أن دور المخرج محوري في توجيه «أوليفيا» بالذات لأنها مفتاح الفيلم. أعتقد جازماً أن مشهد الحفل الأخير، ثم اللقطة الأخيرة من الفيلم التي لا أريد أن أكشفها، سيعيشان طويلاً في ذاكرة كلاسيكيات أفلام التشويق، ربما كان سيرفع من وزن الفيلم كثيراً لو كان الاهتمام أكبر بالملامح النفسية لشخصياته الثرية، ولكن حتي بدون ذلك نحن أمام عمل من أهم وأمتع الأفلام الأوروبية الأخيرة: تشويق بطعم السياسة، ولعبة بطعم الجد، وأشباح تدير الأمور بينما يقف في صدارة المشهد أشخاص لا يمتلكون أي قدرات سوي وسامة الوجه، وأناقة الملبس، وبراعة التمثيل!