تدُّق أجراس التنبيه وبصوتٍ متزن تنادي في مذياع المطار «على المسافرين في الرحلة رقم MS804 المتجهة إلى القاهرة التوجه للبوابة رقم...»، ليتقدم المسافرون للبوابة ويتهامسون «مصر وحشتني»، «أولادي وحشوني»، ليصعد 66 راكبًا إلى الطائرة المصرية طراز إير باص، من بينهم 10 من أفراد طاقم الطائرة، التي أقلعت من مطار شارل ديجول متجهة إلى القاهرة. وهنا بدأت الرحلة، في فجر الخميس الماضي، أقلعت الطائرة وأُذن لهم بربط الأحزمة استعدادًا للإقلاع، تتجول مضيفات الطائرة مبتسمات، واستعد الطيارون للرحلة، في مقاعدٍ متفرقة نفتح صناديق المصريين الذي كان لكل منهم قصة في تلك الرحلة، فالأكثر عددًا كانوا المصريين حيث ضمت الطائرة 30 مصريًا، فلكل وجهة وحكاية هي الأقوى. يجلس على أحد مقاعد الطائرة محتضنًا زوجته التي كانت في رحلة علاجية إلى فرنسا، بعد أن أجرت عملية جراحية ناجحة، كانت بدايتها فكرة «أحمد العشري» الذي باع كل ما يملك ليتمكن من علاج شريكة حياته، «ريهام حسن» من مرض خبيث، كاد يسلب حياتها، وقررا السفر إلى فرنسا قبل 3 أشهر للعلاج، والتي نجحت أخيرًا وانتهت الرحلة في الأراضي الفرنسية بسلام. لكن انتهت معها رحلتهما إلى الحياة الجديدة، وتحطمت آمال العودة لأطفالهم الثلاثة، أكبرهم ذو السبع سنوات، وتوقفت دقات الساعة عند الثالثة والنصف من فجر اليوم ذاته لتكتب الوداع الأخير لقصة الوفاء والحب. لم يكن المرض الخبيث، هو سبب سفر العشري وزوجته فقط ففي أحد المقاعد الأخرى جلست أم بجانب ابنتها التي كانت رحلتها علاجية إلى فرنسا، فإن السعودية سحر الخوجة، البالغة من العمر 52 عامًا، لم تتوقع أن رحلة الشفاء تلك هي الأخيرة لها ولأبنتها سالي، البالغة من العمر 22 عامًا، ذات المبسم الجميل والوجه النقي والقلب الصافي، وكما قيل عنها فهي ذات القلب النقيّ. فالأم سحر الخوجة، موظفة في السفارة السعودية في القاهرة منذ 20 عامًا، وهي أمّ لابن وبنت من طليقها المصري، وقد رافقت ابنتها سالي، التي تعاني من سرطان الغدد اللمفاوية في رحلة علاجية إلى إسبانيا، قبل أن تنتقلا إلى باريس، وبقيّ الابن وحيدًا إلا أن السفير السعودي في القاهرة أحمد بن عبدالعزيز قطان تواصل هاتفيًا مع ابن الراحلة «محمد» وقدّم له تعازيه، وأبلغه بأنه سيتكفل بكامل مصاريفه حتى انتهاء دراسته الجامعية. ولدى طاقم الطائرة أيضًا قصص هي الأغرب في مشوار حياتهم، فكانت رئيس طاقم الضيافة في الطائرة إحدى الفنانات المصريات التي تركت التمثيل، لتبدأ مشوارها في طريق الطيران والضيافة، كان التمثيل في بداية حياتها هو حلمها الذي يراودها وكانت تنوي تحقيقه وتصبح إحدى النجوم في عالم الفن، هي ميرفت زكريا زكي أو الشهيرة بميرفت عفيفي. فكانت ضمن سلسلة النجوم الذين شاركوا في المسلسل الشهير «أبو العلا البشري»، وجسدت دور «هالة عوض» ولكنها لم تستكمل مشوارها في التمثيل ولم تشارك في الجزء الثاني من العمل، والتحقت بعالم الضيافة الجوية بشركة مصر الطيران منذ ما يقرب من 20 عامًا. وبعد ترقيتها من شهر واحد فقط، كرئيس طاقم الضيافة، كانت MS804 هى الرحلة الأولى لها في منصبها وأيضًا الأخيرة، وتترك ابنتها وحيدة بعد أن فقدت أبيها منذ فترة ليست ببعيدة. وعودة إلى المرض الخبيث الذي دائمًا ما يقضي على كل غالٍ وعزيز، فإن مساعد الطيار محمد محمود عاصم، الذي حلم بالطيران، وضعت ووالدته كل مدخراتها لتحقيق حلمه، وأمه ماتت منذ سنوات قليلة بعدما أصيبت بالمرض ذاته وحققت حلمه الذي نشأ على تحقيقه وساعدته في ذلك أمه إلا أن للقدر أقوال أخرى. أما عن سمر عز الدين مضيفة الطائرة المنكوبة، التي دخلت مجال الضيافة منذ عامين فقط، وبعد بداية مشوارها فيه وضعت صورة لطائرة محطمة في البحر، فكأنما توقعت ما سيحدث، هي فتاة ذات ملامح هادئة وصفها أصدقاؤها بجميلة الروح والقلب وتبلغ من العمر 27 عامًا.
فقائد الطائرة لديه القصة ذات العمر الطويل التي كانت بدايته مرة ونهايتها مفاجأة، فإن الكابتن محمد شقير، البالغ من العمر 37 عامًا، كان آخر ما قام به هى حفلة عشاء كبيرة بمناسبة ترقيته، حيث دعا جميع زملائه من كلية الطيران لعشاء ضخم للاحتفال بكونه أصبح كابتن رئيسي للطائرة، وبعدها بأربعة أيام فقط، أخذته الطائرة وهوت إلى المجهول. وفي حوار لعائلته مع صحيفة «ديلي ميل» البريطانية، قالوا أنهم ضحوا بكل شيء حتى يصبح طيارًا، ويترقى من مساعد طيار إلى كابتن طيار، ويصبح ذو سمعة جيدة فى هذه المهنة، فهو من قضى 6275 ساعة طيران منها 2101 ساعة طيران فى طائرة «إير باص 806». وبالتأكيد توجد قصص كثيرة في جوف كل من حملتهم الطائرة المنكوبة، لكنها انتهت في تمام الثالثة والنصف من فجر الخميس الماضي وعلى ارتفاع أكثر من 37 ألف قدم، ودخلت في مصيرها المجهول، وكتبت النهاية لأحلام باتت في مخيلة العائدين من فرنسا، وفي مخلية من انتظروهم في صالة مطار القاهرة، ومن احتضنهم البحر، أخرج قطرات سقوطهم على وجه من انتظروهم وسقطت دموعهم، وتختفي MS804 والتي لم يبق منها سوى قصص بقت وستبقى هي الذكرى الوحيدة لذويهم. ومن صفاء زرقة شعار مصر الطيران اتشحت بسواد المجهول، وانتهت آمال ذويهم بالعودة، وسقطت دموع الوحشة والفرقة الأبدية، فتأثرت مصر كلها وبقيت قصص «الطائرة المنكوبة» هي الذكرى فقط وهوت أجساد أصحابها إلى قاع المجهول لكنهم تركوا في قلوب المصريين أجمعين وجع فراقهم.