عندما هتف سيد قطب أنه وجد تفسيراً جديداً ومختلفاً ورؤية غير مسبوقة للمصطلحات الأساسية فى القرآن ، لم نكن نعلم ساعتها أنه إقتبس الفكرة تماماً من أبو الأعلى المودودى ، والمدقق يلحظ التأثر الكامل فى كتب الظلال والتصوير الفنى والمعالم بكتاب " المصطلحات الأربعة " للمودودى ، ولم نكن ندرى عن الخلاف والسجال الذى دار بين المودودى ووحيد الدين خان شيئاً ، وعندما نضجت رؤيتنا وإمتلكنا أدوات نقد هذه الأفكار " الجديدة " التى لم نعثر عليها فى تراث وإنتاج السابقين الفكرى ، وباشرنا المهمة فى مناخ عدائى وأجواء حرب علينا ، إكتشفنا كنز ردود خان على المودودى ، وتبين لنا أن تجربتنا فى التعاطى وردود الأفعال والنقد وحتى العداء والهجوم كان قد خاضها وحيد الدين خان قبلنا مع أساس ومنبع الفكرة وجذورها فى شبه القارة الهندية منتصف القرن الماضى . الدين عند الأستاذ المودودى – كما إقتبس منه قطب - .. جسده ومخه ونخاعه وقلبه وهدفه إقامة " الحكومة الإلهية " وهو " هدف الأمة المحمدية إلى يوم القيامة " ، ويرهن الدين ومفاهيمه ورموزه وتعاليمه وتاريخه ومقاصده ويتم حصره فى التفسير السياسى وغاية إقامة " الحكومة " . السؤال الذى أثاره خان وأثرناه من خلال إستعادة وإستحضار تراث الأئمة والمجددين الكبار على مدى قرون ممن فسروا الدين ومعانيه ومفاهيمه ومصطلحاته كما هى – بمعناها الشامل الكامل للدين - دون توجيهها وجهة بعينها أو حصرها فى زاوية بعينها .. هو : ماذا عن هؤلاء المجددين الكبار ؟ وكيف فاتهم جميعاً هذا " التجديد " وما سر عدم تبنيهم لتلك الرؤية التى تم إستحداثها فجأة فى عشرينيات القرن الماضى وبدأ تأصيلها على يد المودودى فى الهند وكملت وتمت على يد قطب فى مصر ، وهى أن الدين ومفاهيمه للحكومة ومن أجل الحكومة وفقط ؟ يجيب المودودى عن ذلك قائلاً أن " معانى القرآن قد حصرت فى المعانى الضيقة والمبهمة فى كتب اللغة والتفسير فى القرون الأخيرة .. على سبيل المثال أن الإله من يُعبد والرب من يربى والعبادة هى الخضوع والدين هو الملة ، وهكذا كل لفظ حدد بالمفهوم الروحى والدينى ، وغابت المفاهيم والمعانى المدنية والسياسية التى كانت فيها " ، ليأتى المودودى ويكشف فى كتبه غموض هذه المصطلحات الأربعة ومعانيها المدنية والسياسية وأهدافها الحقيقية – التى كانت غائبة بالطبع عمن سبقه من أئمة ومجددين - ! يفسر المودودى كيف غاب هذا التفسير والفهم " الصحيح " – وفق رؤيته - قروناً فى العالم العربى والإسلامى ، فقال : " أن القدامى لم يفهموا الدين فهماً صحيحاً " ! ويرجع السبب إلى " قلة الذوق العربى الخالص " والثانى " أن الذين نشأوا فى المجتمع الإسلامى لم يستطيعوا إدراك تلك المعانى التى كانت مفهومة فى المجتمع الجاهلى وقت نزول القرآن ! " فكانت النتيجة أن أشكل على الناس فهم هدف القرآن مؤكداً أنه " بغياب هذه المصطلحات الأربعة غاب عنا ثلاث أرباع التعاليم القرآنية " ، وأن " الناحية السياسية هى الهدف الحقيقى فى القرآن وغايته القصوى " . ويندهش خان لتلك الجرأة العجيبة ؛ فلقد ورد فى الحديث النبوى " يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد للأمة دينها " فبناء على هذا الحديث الصحيح فإنه مضى على الأمة الإسلامية إثنا عشر مجدداً على الأقل ، ولكن عندما شاهدنا التاريخ الإسلامى الكامل فى المرآة السياسية الدينية دهشنا أنه لم يولد فيه أحد يمكن أن يقال عنه مجدد بمعنى الكلمة فكيف بالحديث ؟ حاول المودودى الخروج من هذا المأزق مدعياً أن " المجدد قسمان ؛ مجدد جزئى ومجدد كلى ؛ فالذين جددوا الدين إلى هذا الوقت جزئيون ودرجة المجدد الكامل شاغرة حتى الآن " ! ويقول " جميع المجددين دون أى إستثناء كانوا جزئيين " ! خان يرد على هذه " الإهانة " بذكاء قائلاً : " إذا قبلنا هذا التفسير السياسى الإنقلابى للدين فلابد أن نقبل – والعياذ بالله – أن الأنبياء فيهم نبى جزئى ونبى كامل ؛ لأن غالبية الأنبياء لم ينجحوا فى مناطقهم فى إقامة الثورة السياسية ومنهم من نجح فى إقامة الحكومة ومنهم من لم ينجح .. فبموجب هذا التفسير كان إبراهيم الخليل نبياً جزئياً لأنه لم يستطع إقامة الحكومة الإلهية " ! هذه الظاهرة شائعة داخل كل التيارات المتأثرة بفكر قطب والمودودى .. ظاهرة الإستعلاء بهذه الفكرة الجديدة المستحدثة والخيلاء بها وإظهارها على أنها الحدث التجديدى الأكبر والمهم ، وأن من تبناها هم " المجددون العظام " ، وكأن تاريخ الإسلام خلا قبلهم من " مجددين " فاتهم إكتشافها وتبنيها . لقى صبى أبا العلاء المعرى فقال له : ألست القائل : وإنى وإن كنت الأخير زمانه .. لآت بما لم تستطعه الأوائل ؟ قال أبو العلاء : نعم أنا القائل ذلك .. فقال الصبى : إن الأوائل قد أتوا بحروف الهجاء تسعة وعشرين حرفاً ، كل حرف لابد فى الكلام منه ويختل بدونه ، فهل يمكنك أن تزيد فيها حرفاً يحتاج إليه الناس فى الكلام كبقية الحروف وينتظم الكلام به فتكون قد أتيت بما لم تأته الأوائل ؟ فسكت أبو العلاء .. ثم سأل عن والد الصبى فقيل له هو إبن فلان ، فقال قولوا لوالده يحتفظ به فإنه عن قليل يموت ، فإن ذكاءه يقتله ، فما كان إلا أيام قلائل حتى مات . هذه الجملة وردت فى الرد المهذب لوحيد الدين خان على الأستاذ المودودى الذى أصر على إهمال ردود خان والتجاوب المنطقى مع نقده وأطروحاته الفكرية التى حاول بها تصحيح المسار الفكرى والمنهجى للجماعة الإسلامية الهندية وزعيمها ومؤسسها الأستاذ أبو الأعلى المودودى – وهى ثانى أكبر حركة إسلامية فى العالم بعد الإخوان - .. قال خان : " إن الإنحراف البسيط عن الحقيقة يؤدى إلى فساد كبير فى الدين " .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.