فى الوقت الذى قضت فيه دائرة العقود بمحكمة القضاء الإدارى بمجلس الدولة، ببطلان عدة عقود بيع وتخصيص أراضى وشركات القطاع العام لمجموعة من المستثمرين العرب والأجانب، هدد البعض منهم باللجوء إلى التحكيم الدولى إذا لم تتخذ الحكومة المصرية إجراءات تسوية مرضية للطرفين، بدلا من نزع الملكية لأنها فى نظرهم إجراءات مجحفة لحقوقهم. مسالة التلويح باللجوء إلى التحكيم الدولى تعيد إلى الأذهان القضية الأشهر فى تاريخ اللجوء إلى التحكيم الدولى، وهى قضية وجيه سياج رجل الأعمال المصرى وصاحب الجنسية الإيطالية، الذى قامت الحكومة المصرية بسحب قطعة الأرض الخاصة به فى طابا لاعتبارات تتعلق بالأمن القومى، فقام سياج، برفع دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإدارى بمجلس الدولة، فى منتصف تسعينيات القرن الماضى، وصدر حكم فيها بمنحه تعويضا ماليا قدره 300 ألف جنيه مصرى، إلا أن الحكومة المصرية فى ذلك الوقت لم تلتزم بالحكم، فما كان منه إلا أن لجأ إلى التحكيم الدولى وحصل بعد مفاوضات مع الحكومة المصرية على تعويض قدره 450 مليون دولار!!. من بين الشركات التى تسير على خطى سياج، شركة غاز شرق المتوسط (إى إم جي) المملوكة لرجل الأعمال الهارب حسين سالم، والتى تتولى مهمة تصدير الغاز المصرى لإسرائيل، فقد استعانت الشركة بمكاتب محاماة دولية لمقاضاة مصر والمطالبة بتعويض قدره 8 مليارات دولار بعد صدور حكم القضاء الإدارى بوقف تصدير الغاز المصرى لإسرائيل. وكذلك الشركة المصرية الكويتية صاحبة أرض العياط ورجل الأعمال السعودى جميل قنبيط. وعلى صعيد آخر، كان الأمير الوليد بن طلال، فى طريقه للجوء إلى التحكيم الدولى بشأن أرض توشكى التى تملكها بثمن بخس، وأرادت الحكومة المصرية بعد الثورة سحبها منه، لكن الحكومة المصرية تدخلت فى الوقت المناسب ونجحت فى تسوية الأمر معه قبل لجوئه للتحكيم الدولى، بعد تنازله عن جزء من مساحة الأرض وجزء آخر حق انتفاع والجزء المتبقى يكون ملكا له. فماماهية التحكيم الدولى؟، ومتى تلجأ إليه الشركات أو المستثمرون العرب والأجانب؟، وهل هو مؤسس على اتفاقيات دولية بين الدول فيما بينها؟، وفى أى مكان توجد هذه المراكز؟، وما مدى إلزامية الأحكام الصادرة عنه للدول؟، وما عواقب عدم الالتزام به؟، وطرق الطعن عليه ومدى قبوله؟، وكيفية تفادى لجوء بعض المستثمرين الأجانب إلى التحكيم الدولى؟، وهل يعتبر اللجوء إلى التحكيم الدولى يتعارض مع سيادة الدول؟، وأخيرا هل أصبح التحكيم الدولى سيفا مسلطا على رقبة الحكومة المصرية؟، كثير من الأسئلة يطرحها رجل الشارع، وحملتها "المصريون" إلى رجال القانون للحصول على إجابة لها. فى البداية يقول المستشار صدقى خلوصى رئيس هيئة قضايا الدولة السابق: التحكيم الدولى ما لم يكن متفقا عليه فى عقود التعاون بين الدول فيما بينها فلا يصح بحال من الأحوال اللجوء إليه، فلابد أن يكون هناك اتفاقية بين دولة المستثمر مهما كانت جنسيته والدولة المصرية، تتعهد فيه الحكومة المصرية بحماية المستثمر وحماية استثماراته ومشروعاته، فإذا ما قامت الحكومة المصرية بعمل أى فعل سواء أكان هذا الفعل إيجابيا أو سلبيا ولكنه يخل بالعقد، ففى هذه الحالة يلجأ المستثمر إلى قضاء دولته لكى ينصفه، لأن الحكومة المصرية لم تلتزم بحمايته وحماية استثماراته كما نصت على ذلك الاتفاقية الموقعة بين دولته وبين الدولة المصرية. وأوضح المستشار خلوصى، أن قضاء التحكيم الدولى مؤسس على اتفاقية دولية وقعت عليها مصر، وهى اتفاقية "الإكست" ومراكز التحكيم تقع فى باريس وواشنطن وتتبع البنك الدولى. وعن مدى إلزامية تلك الأحكام للدول، أكد المستشار خلوصى، أنها ملزمة مائة بالمائة، وفى حالة عدم الالتزام والامتناع عن التنفيذ يقوم البنك الدولى بالحجز على أموال الدولة الممتنعة فى البنوك الخارجية، وكذا الأملاك الخاصة بها فى الخارج، كما حدث فى قضية سياج، عندما قام البنك الدولى بالحجز على الأموال المصرية فى البنك الأهلى فى إنجلترا. وعن كيفية الطعن على تلك الأحكام ومدى قبوله، أوضح خلوصى، أنها تكون بالبطلان فقط أمام ذات هيئة التحكيم إذا كانت هناك شائبة شابت إجراءات التحكيم وهو ضئيل جدا. وعن كيفية تفادى لجوء بعض المستثمرين إلى التحكيم الدولى شدد خلوصى، على أنه يجب ألا تنص العقود الجديدة التى ستقوم الحكومات المصرية بتوقيعها بعد ذلك مع مستثمرين عرب أوأجانب على اللجوء إلى التحكيم الدولى فى حالة الخلاف أو وجود نزاع بين المستثمر والحكومة المصرية، حتى لا يكون التحكيم الدولى سيفا على رقبة الحكومات المصرية، لكن طالما أن العقد ينص على اللجوء إلى التحكيم الدولى ومصر موقعة على الاتفاقية الدولية الخاصة بذلك فلا مهرب ولا مفر منه. ونفى المستشار خلوصى، أن تكون مثل هذه الأحكام متعارضة مع مبدأ سيادة الدول، ولا تعد تدخلا فى الشأن الداخلى، لأنها بكل بساطة حكم قضائى، وإذا كان عكس ذلك لما أصدرت الدولة المصرية القانون 27 لسنة 1994 الخاص بالتحكيم، فمسألة التحكيم الدولى هو اتجاه عالمى لتخفيف العبء عن القضاء داخل الدول. أما الدكتور أحمد رفعت أستاذ القانون الدولى، فيقول إن كل العقود التى قضى القضاء الإدارى ببطلانها كان منصوصا فيها باللجوء إلى التحكيم الدولى فى حالة وجود منازعات بين طرفى العقد، وهما الحكومة المصرية والمستثمرين الأجانب، فغالبا ما يكون الاتفاق على كيفية الحل هو اللجوء إلى التحكيم الدولى . وأضاف رفعت، أن قانون الاستثمار فى مصر يحمى المستثمرين من التأميم والمصادرة، فهو يعطى ضمانات كافية لهم لكى يضخوا المليارات واستثمارها فى مصر بلا خوف، فالعقود الدولية بين طرفين مختلفين تنص على اللجوء للتحكيم الدولى فى حالة الخلاف، فمن حق المستثمر أن يلجأ إلى التحكيم الدولى لأنه فى هذه الحالة يلجأ إلى جهة قضائية محايدة ومنصوص عليها فى الاتفاق المبرم مع الحكومة. وأكد رفعت أن الأحكام الصادرة من مراكز التحكيم الدولى ملزمة للحكومة المصرية، لأنها موقعة على اتفاقية اللجوء إلى التحكيم الدولى، وفى حالة عدم تنفيذ تلك الأحكام تكون العواقب وخيمة والعقوبات كبيرة مثل الحجز على أرصدة مصر فى البنوك المصرية فى الخارج وأى ممتلكات مصرية أخرى. ونبه رفعت إلى أن أحكام القضاء الإدارى التى صدرت ببطلان عقود بيع عدة شركات وأراض للمستثمرين الأجانب كانت فى المقام الأول أحكام سياسية، صدرت بالدرجة الأولى إرضاء للشارع المصرى، وهذا أمر فى غاية الخطورة وعواقبه ستكون غير محمودة على مصر، وأن الاتفاق الذى تم توقيعه بين الحكومة المصرية والمستثمر السعودى الأمير وليد بن طلال الخاص بأرض توشكى كان أفضل شىء له هو التسوية، وبالتالى ففى هذه الحالة لا يحق للوليد، رفع دعوى قضائية أمام مراكز التحكيم الدولى الموجودة فى باريس وواشنطن. وشدد رفعت، على أن تكرار تلك الأحكام الصادرة من مجلس الدولة ستؤدى إلى رفع المزيد من القضايا على مصر، وبالتالى كثرة الغرامات التى ستتحملها الخزانة المصرية، وأيضا عدم مجىء المستثمرين وعزوفهم عن الاستثمار فى مصر. وقال إنه ما كان على القضاء الإدارى أن يتصدى للحكم فى تلك الدعاوى ويقضى بفسخ عقود البيع المنصوص فيها على اللجوء إلى التحكيم الدولى، لأن هناك قواعد دولية وتحكيم دولى لابد أن تلتزم به الدولة، فإذا لم تلتزم به تتحمل تبعات ذلك، فالقضاء المصرى جزء من النظام المصرى، والدولة تتحمل أخطاء سلطاتها التشريعية والقضائية والتنفيذية، فلا يعقل أن تبرر الدولة أخطاءها بأن القضاء هو الذى حكم ولا دخل لها فى أحكام القضاء، لأن هناك مراكز تحكيم منشأة باتفاقات دولية ومعتمدة دوليا ولها وضع قانونى ممكن اللجوء إليه، مشيرا إلى انه بدلا من صدور مثل هذه الأحكام فى القضاء الإدارى كان من الأفضل الدخول فى مفاوضات مع أصحاب الشركات للخروج بأقل الخسائر، ويتم عمل تسوية معهم بدلا من ذهابهم إلى التحكيم الدولى بعد ذلك. وأذكر هنا أنه بعد الثورة صدر أول بيان للمجلس العسكرى قال فيه إن مصر ملتزمة بجميع الاتفاقيات والمعاهدات والعقود الدولية التى وقعتها، فالعقود تأتى فى مرتبة المعاهدات والتعهدات الدولية، فكان يجب على الدولة أن تحترمها لأنها جميعا وقعت باسم الدولة المصرية وليست باسم شخص بعينه. وفى النهاية أكد أنه إذا أرادت مصر أن تتحلل من الالتزامات والاتفاقيات والمعاهدات الدولية فلا يكون ذلك بقرارات ثورية، أو بتصرفات غير محسوبة تتحمل مصر تبعاتها بأعباء معنوية ومالية وسياسية، وتصبح مسألة اللجوء إلى التحكيم الدولى سيفا على رقاب الحكومة المصرية.